21 يوليو 2024
انتخابات تونس.. أفول الزعامات وزيف الوعود
تجمع الأدبيات التي نظرت إلى الزعامة في المطلق، والزعامة السياسية تحديداً، على أنها حالة تاريخية ترتبط بعدة عوامل، فالزعيم لا يظهر كالفطر، ولا يُصنع صنعاً، ظهوره مرتبط بظروف معينة. هو شخص تفرزه ظرفية استثنائية، تتسم بصراعٍ ضد احتلال أجنبي، أو نتيجة تحوّل اجتماعي، كالثورة مثلاً. ويمتاز هذا الزعيم بخصال تجعله يتعالى عن حزبه، أو مجتمعه، ويبلغ إشعاعه ما هو كوني. ومن جهة أخرى، يتماهى مع مجتمعه، لأنه يجسّم طموحاته، فصفاته تتمثل أساساً في الشجاعة والكاريزما والحكمة والمبادرة وقوة العزيمة والصبر على كل ما يؤذيه، والحسّ السياسي تكتيكاً واستراتيجياً. تكون كلمته مسموعة، وأوامره مُطاعة، تطبق من المجتمع بصفة إرادية، فلا يشعر أفراده بالضغط أو القوة. وبمعنى آخر، الجانب المعنوي والمهابة هما المحرّكان اللذان يجعلان الناس ينقادون خلفه. وفي بحثه عن "غروب شمس الزعامات السياسية"، يرى رضا الزواري أن هذه الشخصيات وجدت في القديم حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، وحصول البلاد المستعمرة على استقلالها. وبدءاً من أواخر
السبعينيات، تقلصت هذه الظاهرة حد التلاشي، فلا نجد اليوم في العالم بأسره شخصاً يمكن أن يطلق عليه صفة الزعيم.
أدّت عوامل أساسية دوراً في أفول نجم الزعامات، أهمّها تراجع الإيديولوجيات الكبرى التي صبغت العالم في بداية القرن العشرين، وضعف مفهوم السلطة بمختلف أشكالها، وتغير المعطيات الديموغرافية المتمثلة في توسع القاعدة الشبابية، وانتشار نسبة التمدرس في كل مستويات التعليم، مع بروز ظاهرة الفردانية وتضخم الأنا. وأوجدت الثورة الاتصالية وكذا انتشار الوسائط الحديثة للمعلومات والاتصال، وتحرّرها النسبي من تحكّم السلطات السياسية مع الثورة الرقمية، فضاءاتٍ بديلة لممارسة الجماهير النقد المباشر الذي لا يُستثنى منه أحد، كمواقع التواصل. يضاف إلى ذلك ما جاءت به العولمة من هتك للحدود، ونشر لقيم أخرى تؤسس للتنميط الثقافي والاجتماعي. أما الأحزاب الدينية التي ظهرت في المنطقة العربية، وكان لها تأثيرها على الفئات الشعبية، التقليدية والمحافظة، فلم ترتق قياداتها إلى مرتبة الزعامة، نظراً إلى هيمنة الجانب التحديثي في البنية الاجتماعية والثقافية المشروخة (تونس نموذجاً).
ميزت زعامات التاريخ الحديث لتونس، وأسهمت في تحولاته، منها الزعامات النقابية، على غرار محمد علي الحامي، وفرحات حشاد، والزعامات السياسية، على غرار علي باش حانبة، وعبد العزيز الثعالبي، والحبيب بورقيبة، وصالح بن يوسف، ومحمود الماطري، والمنجي سليم، وصولاً إلى الباجي قايد السبسي، الذي يعتبر من الجيل المؤسس للدولة التونسية الحديثة، ولعله آخر زعيم لها، ويمكن القول إنه دخل قصر قرطاج رئيساً وخرج منه زعيماً. وقد جاءت رئاسيات تونس 2019 لتكشف عن غروب شمس الزعامات السياسية في المشهد الانتخابي. فشلت كل الأحزاب والتكتلات التي دخلت السباق، أو التي تنوي دخوله، في نحت زعيم أو
أكثر، يمكن أن يسدّ الفراغ الذي تركه الرئيس الراحل. وهذه إحدى عقبات هذا السباق، فهذه الأحزاب، علاوة على ضعفها الهيكلي، وعدم قدرتها على التأثير داخل الأوساط الشعبية وغياب برامجها ورؤاها، نراها اليوم تؤدي دوراً سلبياً في زيادة تقسيم المقسّم. انفجرت من الداخل، وتشتتت، ووصلت إلى حد التناحر. وذلك ما حصل في "نداء تونس"، حزب الرئيس الراحل والحزب الأقوى في انتخابات 2014 (86 مقعداً برلمانياً). كما تواجه حركة النهضة اليوم صعوباتٍ جمّةً قد تهدّد بتفجيرها من الداخل، على غرار ما حصل مع حليف الأمس. وقد بدأت علاماتٌ، تؤشّر عليها انسحابات من الحركة ومن لجانها وهياكلها (مجلس الشورى) واستقالات لقيادييها (لطفي زيتون). ويظل المثال الأوضح على تشظي هذه الأحزاب وضعفها ما حدث لأكبر تجمع يساري (الجبهة الشعبية) من انقسامات وخلافات وانشقاقات، وصل صداها إلى المحاكم.
كما أن الشخصيات، ومن ورائها التكتلات التي دخلت سباق هذه الاستحقاقات، سقطت في الشعبوية، وكشفت عن جهل بمقتضيات الدستور ومضامينه، في ما يتعلق بمنصب رئيس الجمهورية ووظائفه، فقد حدّد دستور الجمهورية الثانية الوظيفة الأساسية لرئيس الجمهورية كالتالي: "هو رئيس الدولة ورمز وحدتها ويضمن استقلالها واستمراريتها ويسهر على احترام الدستور". ويلخص مهامّه الرئيسية في "تمثيل الدولة وضبط السياسات العامة في مجالات الدفاع والعلاقات الخارجية والأمن القومي، بحماية الدولة والتراب الوطني من التهديدات الداخلية والخارجية". هذا ما يؤطر كامل الحملة الانتخابية الرئاسية، لا كما هو الآن ممارس من أغلب المرشحين من وعود ولغط حول كل شيء، إلا حول المجالات التي خصّ بها الدستور رئيس الجمهورية. هناك حديث ووعود عن مقاومة الفقر وعن الصحة والتعليم ومحاربة غلاء المعيشة وتحسين المرفق العمومي، وكله حديثٌ خارج عن الإطار الدستوري، بل هو خارجٌ عن الموضوع يغازل عواطف الناخب ومزاجه، ويذهب بعيداً عن الصلاحيات الدستورية لمؤسسات الدولة.
يدعو هذا المشهد هؤلاء المرشحين إلى التخلي عن صراع الزعامات المزيفة، ومرض التشبث بالرئاسة، والتوجه إلى الاستفادة من التراث الإصلاحي للزعماء الرموز الذين حفل بهم التاريخ الحديث لبلادهم، عسى أن تستقيم الأمور، وتستعيد رئاسة البلاد رمزيتها واعتبارها.
ميزت زعامات التاريخ الحديث لتونس، وأسهمت في تحولاته، منها الزعامات النقابية، على غرار محمد علي الحامي، وفرحات حشاد، والزعامات السياسية، على غرار علي باش حانبة، وعبد العزيز الثعالبي، والحبيب بورقيبة، وصالح بن يوسف، ومحمود الماطري، والمنجي سليم، وصولاً إلى الباجي قايد السبسي، الذي يعتبر من الجيل المؤسس للدولة التونسية الحديثة، ولعله آخر زعيم لها، ويمكن القول إنه دخل قصر قرطاج رئيساً وخرج منه زعيماً. وقد جاءت رئاسيات تونس 2019 لتكشف عن غروب شمس الزعامات السياسية في المشهد الانتخابي. فشلت كل الأحزاب والتكتلات التي دخلت السباق، أو التي تنوي دخوله، في نحت زعيم أو
كما أن الشخصيات، ومن ورائها التكتلات التي دخلت سباق هذه الاستحقاقات، سقطت في الشعبوية، وكشفت عن جهل بمقتضيات الدستور ومضامينه، في ما يتعلق بمنصب رئيس الجمهورية ووظائفه، فقد حدّد دستور الجمهورية الثانية الوظيفة الأساسية لرئيس الجمهورية كالتالي: "هو رئيس الدولة ورمز وحدتها ويضمن استقلالها واستمراريتها ويسهر على احترام الدستور". ويلخص مهامّه الرئيسية في "تمثيل الدولة وضبط السياسات العامة في مجالات الدفاع والعلاقات الخارجية والأمن القومي، بحماية الدولة والتراب الوطني من التهديدات الداخلية والخارجية". هذا ما يؤطر كامل الحملة الانتخابية الرئاسية، لا كما هو الآن ممارس من أغلب المرشحين من وعود ولغط حول كل شيء، إلا حول المجالات التي خصّ بها الدستور رئيس الجمهورية. هناك حديث ووعود عن مقاومة الفقر وعن الصحة والتعليم ومحاربة غلاء المعيشة وتحسين المرفق العمومي، وكله حديثٌ خارج عن الإطار الدستوري، بل هو خارجٌ عن الموضوع يغازل عواطف الناخب ومزاجه، ويذهب بعيداً عن الصلاحيات الدستورية لمؤسسات الدولة.
يدعو هذا المشهد هؤلاء المرشحين إلى التخلي عن صراع الزعامات المزيفة، ومرض التشبث بالرئاسة، والتوجه إلى الاستفادة من التراث الإصلاحي للزعماء الرموز الذين حفل بهم التاريخ الحديث لبلادهم، عسى أن تستقيم الأمور، وتستعيد رئاسة البلاد رمزيتها واعتبارها.
مقالات أخرى
25 اغسطس 2023
02 اغسطس 2023
14 يوليو 2023