19 سبتمبر 2022
الفساد الذي يأكل العراق
مرّ العراقَ بمراحل مختلفة من الفساد، بفعل تداعيات الحروب والحصار الاقتصادي، واستشرى بشكلٍ بشعٍ منذ دخل العراق حالة فوضى جماعية بعد غزو أميركي عام 2003، عندما حاول الأميركيون والعراقيون على حدّ سواء الاحتيال على الحكومتين العراقية والأميركية، بكلّ ما يمكنهم الحصول أو الاستحواذ عليه. ثم أصبحت ظاهرة الفساد منظومة مؤسسيّة تمارسها الأحزاب العراقية الحاكمة. وبحسب مراقبين، تبلورت "الظاهرة" مع أول ثلاث دفعات من الفساد، لكي تصبح شوكة تقف ضدّ أيّ عملية إصلاحية حقيقية.
سئل المفتش العام ستيوارت بوين عن طبيعة الفساد في العراق؟ فقال: انتقل من تحت السيطرة إلى فساد خارج عن السيطرة، إلى فساد في السيطرة نفسها. والفساد عراقياً يأخذ مسلكين، ممارسات تافهة على المستوى المحلي وممارسات كبيرة على مستوى الحكومة المركزية. وبقيت "الظاهرة" تتفاقم دائمًا لتغدو أصعب مشكلة، ولم تخضع لرقابة صارمة على المستوى الأعلى، حيث كان هناك فساد خطير لدى القيادة العليا للبلاد، وهذه تغطّي على منظومة كاملة تمثّلها الطبقة الحاكمة التي استحوذت على كلّ الموارد، وسيطرت على كلّ المؤسسّات، واستشرت من خلال الصفقات، وساعدت على ذلك قناعة مطلقة بأنّ للنهب مشروعيته، خصوصاً إن كان من المال العام، بعيداً عن الشعور بالذنب، والتعامل مع الحالة من خلال شبكة متلاحقة، تتمّ من خلالها العلاقات وتوزيع المناصب وشراء الذمم وإرضاء كلّ جوقات المشاركين في الماراثون. وعليه، للفساد خلايا تكوّنت في ظلّ حكومات فاسدة، وظروف تجد فيها سوء الإدارة والحروب المدمرة والصراعات الجهوية والنزاعات العشائرية والإقصاءات المحاصصية الطائفية.. ليغدو الفساد متغلغلاً من الكبير إلى الصغير، ويكون القاعدة والمقبول.
تفشّى الفساد في كلّ المرافق والمؤسسات الرسمية وشبه الرسمية، وحتى لدى شرائح المجتمع.. في المدارس والجامعات، ولدى ضباط المرور والشرطة والأطباء والموظفين الإداريين والقضاء وكل القطاعات. وزارات حكومية كاملة ومديريات ومؤسسّات وأجهزة بيعت لهذا الحزب أو ذاك التيار. آلاف الأسماء الوهمية مسجلة كونها رسمية، ولا وجود لها، فهي افتراضية، وأطلق على أصحابها اسم "الفضائيين"! مع آلاف المشروعات والمقاولات الوهمية التي لا وجود لها. طاول الفساد الكبير الحكومات ودورات البرلمان، وتجد التزوير في كل مكان.
كان المجتمع العراقي قد تحطّم في حرب الثمانينيات، وحروب التسعينيات العسكرية
والاقتصادية، واحتدام الفوضى على عهد الاحتلال الأميركي. وصولاً إلى الحرب الأهليّة التي كانت لها تداعيات صعبة على مبدأ المواطنة الذي لم يعد موجوداً على حساب مصالح الجماعات والأحزاب الدينية والأطراف المتحالفة معها، باتباع النمط النفعي وتلبية المصالح الخاصة على حساب المصلحة العليا للعراقيين كلّهم، واتباع كلّ الوسائل اللامشروعة، وإيجاد المبررّات لكلّ الخطايا، وتموّه الخفايا من كلّ الفاسدين والتابعين لهم، وسرعان ما تبدّل الأطراف، وتُبرم الصفقات، وتوقّع العقود، وتختفي المعلومات.. أو يستخدم العنف والعمل السياسي بكلّ مناحيه الوسخة.
يمرّ كلّ ما حدث ويحدث تحت مرأى الولايات المتحدة الأميركية ومسمعها. وفي مقدمة ذلك إحداثها الانقسام الشيعي والكردي والسني في العراق، باسم "المكوّنات" وامتداده حتى اليوم، وهي مقتنعة بأن المحاصصة تعدّ الأُس الحقيقي للفساد، ولم يكن هناك أيّ نوع من التبصّر بشأن عدد لا يحصى من استشراء فساد العشائر والفصائل السياسية والمليشيات والعصابات والحركات الدينية للجماعات المختلفة التي استفحلت في الهيمنة على الحكم، من خلال انتخابات مزوّرة ومفضوحة. أوجدت تلك السياسات، مثلا، أساليب عنف شيعي سني اتّسم بالتوحّش، وثمة عنف داخل بنية الشيعة السياسيّة، وهو أكثر قسوة. إذ انقسم الشيعة بين متعصبين ومدنيين، وهكذا بالنسبة للسنة العراقيين الذين حرقوا كلّ أوراقهم، بغبائهم وبعدم تقديرهم التحوّلات المصيرية الحاصلة، ودفعوا أثمانا باهظة جرّاء ما فعله كلّ من تنظيمي القاعدة وداعش. ناهيكم عن الذين كانت إيران قد جنّدتهم من أجل تمرير سياساتها بواسطة أعوانها وعملائها الذين شكّلوا لهم دولة عميقة في العراق، وقد تورّمت جماعاتهم ومليشياتهم وجيوشهم في العراق، ليغدوا في إطار طبقة حاكمة فاسدة، وهم الأكثر عسكرة وشراسة. وقد انضم إليهم أنصار بين فقراء المدن والريف معاً، وهم يفاقمون المشكلات، متوقّعين تمامًا عودة المهدي المنتظر. وكان السنة أكثر انكساراً وانسحاقاً، وبدأت حرب داخلية ثابتة داخلهم، إذ تعرّضوا لمآسٍ أحدثتها القاعدة أولا و"داعش" ثانيا.
كان الأكراد وحدهم هم الذين شكلوا جبهة موحدة، وحتى تم تقسيمهم إلى فصيلين مع حركات سياسيّة منفصلة وعناصر استخباراتية. كان الشيوعيون والديمقراطيون الليبراليون والبعثيون والزعماء القبليون وغيرهم من الجماعات الصغيرة، جميعهم على استعدادٍ لاختيار جانب في المد والجزر، فمنهم من انضم إلى جهاز الحكم، وبينهم منافقون ومداهنون يتراقصون بين الخنادق، ومنهم من فضّل استخدام العنف، فباء بالفشل الذريع، ومنهم من حرص على الاستفادة من أي فرصةٍ للنهوض بجماعاتهم وأنفسهم ضمن مصالحهم الفئوية. اعتقد الأميركيون زوراً وبهتاناً، وهم من المتحيّزين لتدمير العراق، بأن الديمقراطية هي الحلّ لجميع مشكلات العراق. ولكن بالنسبة للعراقيين، لم تكن الديمقراطية عندهم إلا مجرّد وسيلة للنشاط السياسي، والسعي إلى المناصب، وفرص النهب مهما كلّف الأمر، وكان سعي الذئاب في مجتمع تلزم الأغنام فيه بأن تصوّت للذئاب.
تحوّل الفساد من كونهِ خارج نطاق السيطرة إلى سيطرة. لم تستخدمه الهيئات الحكومية في أداء مهامها، بل لتوفير الثروات الخيالية والمحسوبية للكتلة السياسية المسؤولة عنها. وهكذا تحوّل
الفساد من حلب البقرة إلى جوقات سياسية تأكل البقرة نفسها. أصبحت الوسائل التي حدث فيها الفساد أكثر تطوراً وابتكاراً. وكلّما نخر الفساد مؤسسّة زاد ضعفها وخورها، وخير دليل على ذلك أنه لم يكن من الغريب على الجيش العراقي في الموصل أن ينسحب ذليلا وينهزم خائراً أمام حفنة من الأشقياء الذين مارسوا الرعب نحو ثلاث سنوات.
لقد خرجَ الفساد في العراق فعلاً عن نطاق السيطرة، مع وجود ثلاث هيئات ووكالات منفصلة أسسها الحاكم العسكري الأميركي بول بريمر، وقتئذٍ: المجلس الأعلى للتدقيق، ولجنة النزاهة العامة، ونظام المفتش العام لكلّ وزارة، ولكنها لم تنفع جميعها في ظلّ غياب للقانون وأحكام الطوارئ وعدم إجراء تحقيقات صارمة ومحاكمات سريعة، واتخاذ قرارات إجرائية قوية ونافذة. وكانت خيبات الأمل الكبيرة في حملة مكافحة الفساد في العراق تتمثّل بعدم وجود قضاء مستقل، بل مسيّس، فلم نشهد أيّ ملاحقات قضائية في ما يتعلق باللاعبين الرئيسيين في المشهد السياسي للبلاد. وإذا جرت تحقيقات مع متهمين ودينوا قضائياً بثبوت الأدلة، سرعان ما يفرج عنهم بعد أيام دون أيّ حساب أو تعهد، ولا كتاب مع فشل المقاضاة الجنائية، وكأنهم جزء من مخطط منظم تقف على رأسه حيتان ضخمة من كبار المسؤولين الذين تعرفهم السفارة الأميركية جيداً. ويدرك الأميركيون مدى السخط العارم للشعب العراقي مما حصل ويحصل منذ أكثر من 15 سنة مضت. القناعات الأميركية تدعم الفساد فعليًا، وهو المستشري في كلّ نسيج العراق الذي غدا اليوم ميدانا موبوءاً بزعامات أوليغارشية والمافيات والعصابات والمجرمين والمرتشين والقطط السمان من السلابة والناهبين والعملاء والمشاركين في العائدات من ذوي القرابة. وتشتمل المنظومة حتى على العشائر ورجال الدين مع هزال المؤسسات في كيانٍ رخوٍ لا يقوى على الحياة، وقد ضاعت فيه المحاسبة والتفتيش مع ضياع مليارات الدولارات نظرا لسهولة إخفاء الأموال الحكومية.
غدا الفساد مستشرياً في كلّ مرافق الحياة التي تقوم على التزوير والصفقات اللاأخلاقية والعبثية والتهديدات وشراء الذمم، وكلّ الموبقات التي تمارسها الأحزاب المشاركة في العملية السياسية. أخطر جريمة كانت ولم تزل تمارس تجاهل الرأي العام وعدم الالتفات إلى من يعارض وينتقد ويفضح هذا الفساد الذي يأكل العراق جهارا نهارا.
تفشّى الفساد في كلّ المرافق والمؤسسات الرسمية وشبه الرسمية، وحتى لدى شرائح المجتمع.. في المدارس والجامعات، ولدى ضباط المرور والشرطة والأطباء والموظفين الإداريين والقضاء وكل القطاعات. وزارات حكومية كاملة ومديريات ومؤسسّات وأجهزة بيعت لهذا الحزب أو ذاك التيار. آلاف الأسماء الوهمية مسجلة كونها رسمية، ولا وجود لها، فهي افتراضية، وأطلق على أصحابها اسم "الفضائيين"! مع آلاف المشروعات والمقاولات الوهمية التي لا وجود لها. طاول الفساد الكبير الحكومات ودورات البرلمان، وتجد التزوير في كل مكان.
كان المجتمع العراقي قد تحطّم في حرب الثمانينيات، وحروب التسعينيات العسكرية
يمرّ كلّ ما حدث ويحدث تحت مرأى الولايات المتحدة الأميركية ومسمعها. وفي مقدمة ذلك إحداثها الانقسام الشيعي والكردي والسني في العراق، باسم "المكوّنات" وامتداده حتى اليوم، وهي مقتنعة بأن المحاصصة تعدّ الأُس الحقيقي للفساد، ولم يكن هناك أيّ نوع من التبصّر بشأن عدد لا يحصى من استشراء فساد العشائر والفصائل السياسية والمليشيات والعصابات والحركات الدينية للجماعات المختلفة التي استفحلت في الهيمنة على الحكم، من خلال انتخابات مزوّرة ومفضوحة. أوجدت تلك السياسات، مثلا، أساليب عنف شيعي سني اتّسم بالتوحّش، وثمة عنف داخل بنية الشيعة السياسيّة، وهو أكثر قسوة. إذ انقسم الشيعة بين متعصبين ومدنيين، وهكذا بالنسبة للسنة العراقيين الذين حرقوا كلّ أوراقهم، بغبائهم وبعدم تقديرهم التحوّلات المصيرية الحاصلة، ودفعوا أثمانا باهظة جرّاء ما فعله كلّ من تنظيمي القاعدة وداعش. ناهيكم عن الذين كانت إيران قد جنّدتهم من أجل تمرير سياساتها بواسطة أعوانها وعملائها الذين شكّلوا لهم دولة عميقة في العراق، وقد تورّمت جماعاتهم ومليشياتهم وجيوشهم في العراق، ليغدوا في إطار طبقة حاكمة فاسدة، وهم الأكثر عسكرة وشراسة. وقد انضم إليهم أنصار بين فقراء المدن والريف معاً، وهم يفاقمون المشكلات، متوقّعين تمامًا عودة المهدي المنتظر. وكان السنة أكثر انكساراً وانسحاقاً، وبدأت حرب داخلية ثابتة داخلهم، إذ تعرّضوا لمآسٍ أحدثتها القاعدة أولا و"داعش" ثانيا.
كان الأكراد وحدهم هم الذين شكلوا جبهة موحدة، وحتى تم تقسيمهم إلى فصيلين مع حركات سياسيّة منفصلة وعناصر استخباراتية. كان الشيوعيون والديمقراطيون الليبراليون والبعثيون والزعماء القبليون وغيرهم من الجماعات الصغيرة، جميعهم على استعدادٍ لاختيار جانب في المد والجزر، فمنهم من انضم إلى جهاز الحكم، وبينهم منافقون ومداهنون يتراقصون بين الخنادق، ومنهم من فضّل استخدام العنف، فباء بالفشل الذريع، ومنهم من حرص على الاستفادة من أي فرصةٍ للنهوض بجماعاتهم وأنفسهم ضمن مصالحهم الفئوية. اعتقد الأميركيون زوراً وبهتاناً، وهم من المتحيّزين لتدمير العراق، بأن الديمقراطية هي الحلّ لجميع مشكلات العراق. ولكن بالنسبة للعراقيين، لم تكن الديمقراطية عندهم إلا مجرّد وسيلة للنشاط السياسي، والسعي إلى المناصب، وفرص النهب مهما كلّف الأمر، وكان سعي الذئاب في مجتمع تلزم الأغنام فيه بأن تصوّت للذئاب.
تحوّل الفساد من كونهِ خارج نطاق السيطرة إلى سيطرة. لم تستخدمه الهيئات الحكومية في أداء مهامها، بل لتوفير الثروات الخيالية والمحسوبية للكتلة السياسية المسؤولة عنها. وهكذا تحوّل
لقد خرجَ الفساد في العراق فعلاً عن نطاق السيطرة، مع وجود ثلاث هيئات ووكالات منفصلة أسسها الحاكم العسكري الأميركي بول بريمر، وقتئذٍ: المجلس الأعلى للتدقيق، ولجنة النزاهة العامة، ونظام المفتش العام لكلّ وزارة، ولكنها لم تنفع جميعها في ظلّ غياب للقانون وأحكام الطوارئ وعدم إجراء تحقيقات صارمة ومحاكمات سريعة، واتخاذ قرارات إجرائية قوية ونافذة. وكانت خيبات الأمل الكبيرة في حملة مكافحة الفساد في العراق تتمثّل بعدم وجود قضاء مستقل، بل مسيّس، فلم نشهد أيّ ملاحقات قضائية في ما يتعلق باللاعبين الرئيسيين في المشهد السياسي للبلاد. وإذا جرت تحقيقات مع متهمين ودينوا قضائياً بثبوت الأدلة، سرعان ما يفرج عنهم بعد أيام دون أيّ حساب أو تعهد، ولا كتاب مع فشل المقاضاة الجنائية، وكأنهم جزء من مخطط منظم تقف على رأسه حيتان ضخمة من كبار المسؤولين الذين تعرفهم السفارة الأميركية جيداً. ويدرك الأميركيون مدى السخط العارم للشعب العراقي مما حصل ويحصل منذ أكثر من 15 سنة مضت. القناعات الأميركية تدعم الفساد فعليًا، وهو المستشري في كلّ نسيج العراق الذي غدا اليوم ميدانا موبوءاً بزعامات أوليغارشية والمافيات والعصابات والمجرمين والمرتشين والقطط السمان من السلابة والناهبين والعملاء والمشاركين في العائدات من ذوي القرابة. وتشتمل المنظومة حتى على العشائر ورجال الدين مع هزال المؤسسات في كيانٍ رخوٍ لا يقوى على الحياة، وقد ضاعت فيه المحاسبة والتفتيش مع ضياع مليارات الدولارات نظرا لسهولة إخفاء الأموال الحكومية.
غدا الفساد مستشرياً في كلّ مرافق الحياة التي تقوم على التزوير والصفقات اللاأخلاقية والعبثية والتهديدات وشراء الذمم، وكلّ الموبقات التي تمارسها الأحزاب المشاركة في العملية السياسية. أخطر جريمة كانت ولم تزل تمارس تجاهل الرأي العام وعدم الالتفات إلى من يعارض وينتقد ويفضح هذا الفساد الذي يأكل العراق جهارا نهارا.