03 أكتوبر 2024
ليس ميراث السبسي
منذ اللحظات الأولى لإعلان وفاة الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي، بدأ الاستثمار السياسي في شخصية الرجل، ومحاولة توظيف علاقة بعضهم به خدمة لأجندات انتخابية وحسابات حزبية، من خلال التركيز المبالغ فيه على جانبين، يخدم كل منهما الآخر، وأعني بهما تصوير تونس الديمقراطية الحالية وكأنها صناعة الرئيس الراحل، وبناء عليه، المطلوب البحث عن رئيس يكون نسخة من السبسي، ويا حبذا لو كانت تربطه علاقة وثيقة بالرئيس الراحل.
كان الأمر أشبه بتعويذة سحرية في المجال السياسي، تجلت في ربط عملية الانتقال الديمقراطي بشخص معيّن، وفي الوقت نفسه، تمهيد الطريق أمام وريثٍ يخلفه، كانت الآلة الدعائية، يا للمصادفة، بصدد ترويجه بالتزامن مع بدء مراسم جنازة الرئيس الراحل.
ولتفكيك بنية الخطاب الدعائي المبالغ فيه، ينبغي استعادة بعض ملامح التحول السياسي التونسي إثر ثورة 2011، فقد جاء السبسي في تلك السنة ليتولى منصب الوزير الأول في الحكومة المؤقتة، خلفا لمحمد الغنوشي، ولم يكن هو ذاته يحلم بهذا الأمر، فالعجوز الثمانيني الذي عمل طويلا مع الرئيس الراحل بورقيبة، وأنهى مساره السياسي بمنصب رئيس مجلس النواب زمن بن علي، وتفرغ لتدوين مذكراته، جاءت التحولات التي أحدثتها الثورة لتنفض عنه الغبار، وتمنحه فرصة العودة فاعلا سياسيا مؤثرا ومهما، مستفيدا من خبرته في العمل الحكومي وعلاقاته ضمن دهاليز الدولة العميقة. لم تكن علاقة السبسي جيدة مع الثوار، بل كان في الأصل مرشح الثورة المضادة، وكان سلوكه الحاد في أثناء رئاسته الحكومة المؤقتة سنة 2011 إزاء اعتصام القصبة الثالث مؤشرا على طبيعة تعامله مع الجيل الجديد الذي تحرّك ضد السلطة زمن المد الثوري، وصولا الى فرار الرئيس السابق زين العابدين بن علي.
رفع السبسي في أثناء فترة رئاسته للحكومة شعارين مركزيين: استعادة هيبة الدولة والعودة إلى السلطة المركزية التي تتفرد بالقرار. ومن الطبيعي أن يكون هذا التوجه صادما للمجموعات الثورية حينها، فيما فتح باب الحلم أمام أنصار الثورة المضادة للاستفادة من الطبيعة السلطوية للباجي قائد السبسي، ليكون هو مرشحها في انتخابات 2014.
بعد وصوله إلى قصر قرطاج، أدرك الرجل أن هناك متغيرات كثيرة في الساحة، فالدستور التونسي الجديد قد جرّد الرئيس من كل السلطات تقريبا، ومنحها لرئيس الحكومة، وحصر نفوذ الرئيس في قضيتي العلاقات الخارجية ومسائل الأمن القومي، ودائما بالتشاور مع رئيس الحكومة. لم يعد الرئيس ذا اليد الطولى في البلاد، كما زمن بورقيبة ومن بعده زين العابدين بن علي. لقد تعمد واضعو الدستور الجديد أن تكون السلطات متشظية بشكلٍ يمنع تركّزها في يد شخص واحد، ولم يكن هذا بالقطع منجزا محسوبا للرئيس السبسي، بقدر ما هو نتاج فترة حكم الترويكا.
من ناحية ثانية، على الرغم من فوز حزب الرئيس (نداء تونس) في الانتخابات النيابية، إلا أنه لم يكن قادرا على الحكم وحده، وإنما هو بحاجة إلى بناء تحالفات واسعة من أجل تشكيل
الحكومة الأولى التي سرعان ما تمت إطاحة رئيسها الحبيب الصيد، ليأتي يوسف الشاهد الذي سيتمرّد على السلطة المعنوية التي يحظى بها الرئيس الباجي في حزب نداء تونس، لينتهي به المطاف منشقا ومؤسسا لحزب جديد، وليقوم بتعديل حكومي لم يكن الرئيس الباجي ذاته راضيا به، ولكنه كان مضطرا للقبول به، تحت ضغط الأمر الواقع ومنطق توزيع السلطات في الدستور التونسي.
ما يسميه بعضهم ميراث الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي هو في الواقع نتاج الثورة التونسية التي استطاعت إعادة تشكيل الوعي السياسي العام، بل وترويض شخصيات سياسية تشربت فكر الحزب الواحد زمن الاستبداد. ولم يكن تجاوز فراغ منصب الرئاسة من دون مشكلات أو صراعات على الطريقة العالمثالثية المعتادة، إلا بفضل وجود دستور الثورة الذي نظم انتقال السلطة. وفي الوقت نفسه، كان لإعادة توزيع مواقع النفوذ دور مهم في تفادي أي شعور بتعطل المرفق العام في أثناء المدة التي قضاها الرئيس مريضا وغير قادر على تسيير الأمور اليومية، فقد كانت الحكومة هي التي تتولى التسيير، ومن خلفها البرلمان.
لقد خطت تونس خطوة مهمة في مسار انتقالها الديمقراطي، للخروج من مرحلة سلطة الفرد الذي يتوقف على وجوده استمرار الحياة السياسية إلى قوة المؤسسة القادرة على سد الفراغ في المواقع الرسمية في كنف استمرارية الدولة. ومتى أصبح هذا السلوك المؤسسي من قبيل المعتاد ضمن النظام السياسي التونسي، يمكن حينها الحديث عن اكتمال البناء الديمقراطي.
ولتفكيك بنية الخطاب الدعائي المبالغ فيه، ينبغي استعادة بعض ملامح التحول السياسي التونسي إثر ثورة 2011، فقد جاء السبسي في تلك السنة ليتولى منصب الوزير الأول في الحكومة المؤقتة، خلفا لمحمد الغنوشي، ولم يكن هو ذاته يحلم بهذا الأمر، فالعجوز الثمانيني الذي عمل طويلا مع الرئيس الراحل بورقيبة، وأنهى مساره السياسي بمنصب رئيس مجلس النواب زمن بن علي، وتفرغ لتدوين مذكراته، جاءت التحولات التي أحدثتها الثورة لتنفض عنه الغبار، وتمنحه فرصة العودة فاعلا سياسيا مؤثرا ومهما، مستفيدا من خبرته في العمل الحكومي وعلاقاته ضمن دهاليز الدولة العميقة. لم تكن علاقة السبسي جيدة مع الثوار، بل كان في الأصل مرشح الثورة المضادة، وكان سلوكه الحاد في أثناء رئاسته الحكومة المؤقتة سنة 2011 إزاء اعتصام القصبة الثالث مؤشرا على طبيعة تعامله مع الجيل الجديد الذي تحرّك ضد السلطة زمن المد الثوري، وصولا الى فرار الرئيس السابق زين العابدين بن علي.
رفع السبسي في أثناء فترة رئاسته للحكومة شعارين مركزيين: استعادة هيبة الدولة والعودة إلى السلطة المركزية التي تتفرد بالقرار. ومن الطبيعي أن يكون هذا التوجه صادما للمجموعات الثورية حينها، فيما فتح باب الحلم أمام أنصار الثورة المضادة للاستفادة من الطبيعة السلطوية للباجي قائد السبسي، ليكون هو مرشحها في انتخابات 2014.
بعد وصوله إلى قصر قرطاج، أدرك الرجل أن هناك متغيرات كثيرة في الساحة، فالدستور التونسي الجديد قد جرّد الرئيس من كل السلطات تقريبا، ومنحها لرئيس الحكومة، وحصر نفوذ الرئيس في قضيتي العلاقات الخارجية ومسائل الأمن القومي، ودائما بالتشاور مع رئيس الحكومة. لم يعد الرئيس ذا اليد الطولى في البلاد، كما زمن بورقيبة ومن بعده زين العابدين بن علي. لقد تعمد واضعو الدستور الجديد أن تكون السلطات متشظية بشكلٍ يمنع تركّزها في يد شخص واحد، ولم يكن هذا بالقطع منجزا محسوبا للرئيس السبسي، بقدر ما هو نتاج فترة حكم الترويكا.
من ناحية ثانية، على الرغم من فوز حزب الرئيس (نداء تونس) في الانتخابات النيابية، إلا أنه لم يكن قادرا على الحكم وحده، وإنما هو بحاجة إلى بناء تحالفات واسعة من أجل تشكيل
ما يسميه بعضهم ميراث الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي هو في الواقع نتاج الثورة التونسية التي استطاعت إعادة تشكيل الوعي السياسي العام، بل وترويض شخصيات سياسية تشربت فكر الحزب الواحد زمن الاستبداد. ولم يكن تجاوز فراغ منصب الرئاسة من دون مشكلات أو صراعات على الطريقة العالمثالثية المعتادة، إلا بفضل وجود دستور الثورة الذي نظم انتقال السلطة. وفي الوقت نفسه، كان لإعادة توزيع مواقع النفوذ دور مهم في تفادي أي شعور بتعطل المرفق العام في أثناء المدة التي قضاها الرئيس مريضا وغير قادر على تسيير الأمور اليومية، فقد كانت الحكومة هي التي تتولى التسيير، ومن خلفها البرلمان.
لقد خطت تونس خطوة مهمة في مسار انتقالها الديمقراطي، للخروج من مرحلة سلطة الفرد الذي يتوقف على وجوده استمرار الحياة السياسية إلى قوة المؤسسة القادرة على سد الفراغ في المواقع الرسمية في كنف استمرارية الدولة. ومتى أصبح هذا السلوك المؤسسي من قبيل المعتاد ضمن النظام السياسي التونسي، يمكن حينها الحديث عن اكتمال البناء الديمقراطي.