02 نوفمبر 2024
خرافات الإحصاءات في لبنان .. المغتربون والجينات والأرقام المنفوخة
في عالم الأرقام، وهو بحرٌ ممتع لا حدود له ولا قرار، يختلط العلم بالسحر، والفلسفة بالخرافة وحتى بالسيمياء. فثمّة، على سبيل المثال، أرقام ذات معانٍ فلسفية مثل 1 و2 و3؛ فالواحد ترميز للأول أو لله، والاثنان هو العقل (أو الكلمة = Logos)، والثلاثة هو النفس. وجميع الأرقام بعد الثلاثة هي إما مضاعف لها، أو حاصل الجمع بينها مثل 4 الذي هو 1 + 3 أو 2x2، والخمسة هو 2 + 3، والستة هو 1+2+3 أو 2x3 أو 3+3. أما الرقم 7 فهو الرقم السحري، لأنه ليس حاصلاً لجمع أي من الأعداد الثلاثة الأولى، ولا ينقسم إلا على نفسه. وكذلك الصفر، وهو مفهوم فلسفي ورياضي؛ فلسفياً يعني الفراغ، وإذا أُضيف مراتٍ كثيرة إلى أي عدد يعني اللانهاية. وهناك أرقام رياضية مثل 22/7 أو π (3,1416)، وهي نسبة محيط الدائرة إلى قطرها. وفي جميع الأحوال، فإن الأرقام، علمية أَكانت أم فلسفية أم سيميائية، تستعمل بجدّية فائقة، إلا في لبنان، حيث تُنثر كيفما اتفق، وفي جميع الاتجاهات بلا علم أو تفكير أو حكمة أو تبصّر، فالصفر في هذا البلد هو مجرّد رقم يُستخدم لأغراض طائفية أو سياسية، فإذا كان عدد الجرائم السافلة في فترة ما 20 جريمة على سبيل المثال فلا ضير ألبتة من ضربه بعشرة ليصبح 200. والأنكى، في مباريات الأرقام هذه، أن الجاهل يجزم بثقة، فيما العالِم يُشكك، والحكيم يتفكّر؛ فالأرقام هنا لا صلة لها بالعلم أو بالرياضيات ألبتة. فمن يعرف حقاً عدد سكان لبنان؟ ومَن يعرف عدد أفراد كل طائفة على حدة؟ ومَن هو الذي تمكّن من تحديد عدد ضحايا الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)؟ وعلى أي رقم استقر عدد اللاجئين الفلسطينيين في لبنان أو عدد السوريين النازحين إليه؟ ومَن يجزم بمقدار ثروات الزعماء من عيار وليد جنبلاط، ونبيه بري، وسمير جعجع، وجبران باسيل، وسعد الحريري؟
عطب الأرقام
الشائع في الخطب الحزبية والكتابات السياسية أن ما لا يقل عن 150 ألفاً سقطوا في الحرب الأهلية اللبنانية (1975 – 1990)، علاوة على نحو 300 ألف جريح و17 ألف مفقود،
وهي أرقامٌ باتت "مقبولة" بقوة الشيوع، لا بدقة الإحصاءات العلمية. وحتى اليوم، بعد ثلاثين سنة على وقف الحرب، لم تسعَ أي جهة رسمية أو موثوقة للتأكد النهائي من دقة هذه الأرقام، غير أن مجموعة بحثية واستقصائية مستقلة تُدعى "جمعية نهضة لبنان" عملت تسعة شهور متواصلة، واستندت في عملها البحثي إلى معلومات رقمية ووصفية واستقصاءات وخلاصات، واستقت ذلك كله من مصادر رسمية، كالأحزاب المشاركة في الحرب، واستخبارية، علاوة على أرشيفي صحيفتي النهار والسفير، وتوصلت إلى أن عدد ضحايا الحرب الأهلية بين 1975 و2006 (بزيادة 16 سنة على التاريخ الرسمي لنهاية الحرب الذي هو 1990) بلغ 48 ألف قتيل ونحو 100 ألف جريح (صحيفة النهار، 26/6/2014)، أي أن الرقم الصحيح جرى نفخه ثلاث مرات، ولم يتصدَ أحد لهذه النتائج بالنقض أو بالتأييد.
والرائج في أحاديث السياسيين أن عدد الفلسطينيين في لبنان تخطى عتبة النصف مليون، وأحياناً يدفعون الرقم إلى أعلى فيصبح ستمائة ألف. وكان الشاعر سعيد عقل قد قال يوماً: "إذا كان في مؤخرة رأس الفلسطينيين أن يبقوا عندنا فأهلاً بهم، ولكن لا فوق الثرى، فأرض لبنان تتسع لـِ 940 ألف قبر" (صحيفة الأحرار، بيروت: 5/10/1981). المهم، أن الرقم الساري في أفواه الزعماء، والرائج في أشداق الكُتاب هو خمسمائة ألف فلسطيني، خلافاً لأرقام مؤسسة رسمية لبنانية، تتبع إدارياً رئاسة الحكومة هي "لجنة الحوار اللبناني - الفلسطيني" التي أجرت، بالاشتراك مع مركز الإحصاء الفلسطيني، تعداداً للفلسطينيين في لبنان، اشتغل في نطاقه عدد وافر من اللبنانيين والفلسطينيين سنتين، وبطرائق محترفة وعلمية، وأُذيعت نتائج التعداد في 2017 بحضور ممثلي الأحزاب اللبنانية، فبلغ عدد سكان المخيمات أقل قليلاً من 175 ألف فلسطيني، يُضاف إليهم نحو خمسين ألفاً ممن يسكنون في المدن اللبنانية، لا في المخيمات، مع هامش خطأ معتاد في الإحصاءات المشابهة. ومع ذلك، ما برح السياسيون اللبنانيون يتغرغرون بالرقم خمسمائة ألف، ويشيحون عن الرقم الصحيح. وعلى هذا الغرار والمنوال يتم العبث بأعداد النازحين السوريين الذين وصل عددهم لدى بعض المخبولين إلى مليونين ونصف المليون فوق الأرض، ومعهم نصف مليون إضافي في أرحام النساء.
خرافة الاغتراب اللبناني
يحلو للبنانيين كثيرين أن يتفاخروا بأن أعداد المغتربين بلغت 15 مليون مغترب، وبالطبع من دون الاستناد إلى أي إحصاء أو وثيقة أو حتى دراسة متينة تقارب هذه المسألة مقاربة علمية. وفي هذا السياق، نشرت الكاتبة سلوى بعلبكي مقالة تجزم أن عدد المغتربين اللبنانيين في العالم
بلغ 14 مليوناً في عام 2010، بينهم تسعة ملايين في الأميركيتين، ونقلت هذا الركام الرقمي من دراسة أجرتها، على ذمة الكاتبة، شركة Heidrick and Struggle، وهي غير معروفة وليست ذات صدقية علمية، ومن غير ذكر المصدر ومكان النشر وتاريخ النشر. وبالتالي، لم يتسنَ لنا التأكد من علمية تلك الدراسة، والوثوق بدقة أرقامها ومنهجيتها ومصادرها الرقمية وغاياتها السياسية. ومهما تكن الحال، فإن أفضل مصدر في مثل هذه الدراسات التاريخية هو تعداد السكان في ما أصبح يُعرف بـِ "جبل لبنان" منذ كان تابعاً لولاية الشام، أو حين بات سنجقاً تابعاً للباب العالي مباشرة؛ فأرقام العثمانيين كانت صحيحةً في الأعم الأغلب جرّاء الدقة النسبية في احتساب ضرائب الرؤوس والأراضي. ففي إحصاء 1860 بلغ عدد سكان الأقضية والمناطق التي أُلصق بعضها ببعض، وصارت تدعى لبنان الكبير، 488 ألفاً. وكان المعدل السنوي للهجرة من لبنان ثلاثة آلاف مهاجر بين 1860 و1900، وخمسة عشر ألفاً سنوياً بين 1900 و1914، وبلغ مجموع عدد المهاجرين بين 1860 و1914 نحو 210 آلاف مهاجر (انظر: بطرس لبكي، هجرة اللبنانيين: 1850-2018، بيروت: دار سائر المشرق، 2019، ص 22). وهذا يعني أن اللبنانيين لو هاجروا كلهم في تلك الأثناء لما بلغوا اليوم 15 مليوناً كما يردّد كثيرون من دون معرفة أو دراية.
ثمّة مصادر أخرى تفيد بأن عدد اللبنانيين المهاجرين بلغ حتى سنة 1906 نحو 60 ألفاً فقط (راجع: الأمير محمد علي باشا، الرحلة الشامية، أبو ظبي: دار السويدي، 2002). وبطبيعة الحال، كان هناك اختلاط في أصول المهاجرين؛ فالجميع كانوا سوريين بحسب تعريف
المهاجرين أنفسهم، أو أتراكاً بحسب جوازات سفرهم. وفوق ذلك، كشف الإحصاء السكاني للبنان في سنة 1920 أن عدد السكان هو ستمائة ألف، وإحصاء 1932 أكد أن العدد هو 785 ألفاً، وأن عدد المغتربين بلغ 252 ألف مغترب. والغريب أن مذكّرة أصدرتها الحكومة اللبنانية في 21/6/1943، أي مع نيل الاستقلال، توضح أن عدد سكان لبنان، حتى سنة 1942، بلغ 925 ألفاً فقط. هنا، في معمعان هذا التضارب، ما كان في الإمكان أن يبلغ عدد المغتربين المهاجرين 15 مليوناً، أَكان الرقم الصحيح للهجرة 160 ألفاً أو 252 ألفاً. ونبقى في ميدان الأرقام نفسه، فقد هاجر من لبنان بين 1870 و1914 ما بين 210 آلاف و300 ألف نسمة (انظر: مجلة الدبلوماسي، العدد 139، تشرين الأول/ أكتوبر 2013، ص 10)، بينهم 150 ألفاً من متصرفية جبل لبنان (انظر: إسماعيل حقي، مباحث علمية واجتماعية، بيروت: منشورات الجامعة اللبنانية، 1970، ص 425). لكن ثلث مَن غادر لبنان حتى الحرب العالمية الأولى عاد إليه (مجلة الدبلوماسي، مصدر سبق ذكره).
ما لا يعرفه معتنقو فكرة "القومية اللبنانية" أو ترّهات "الفَيْنَقَة" أن هجرات خمساً متتالية ومعاكسة عوّضت تناقص عدد السكان في المناطق التي صار اسمها في سنة 1920 لبنان، حين أعلن المستعمر الفرنسي، الجنرال غورو، من قصر الصنوبر في بيروت (مقر الانتداب الفرنسي) ولادة دولة لبنان الكبير، هي: الهجرة الأرمنية التي ازدادت بعد انسحاب القوات الفرنسية من كيليكيا السورية في سنة 1922، والهجرة الكردية التي لم تتخذ شكل التدفقات البشرية، بل شكل التسلل التدريجي، والهجرة الفلسطينية في سنة 1948، والهجرة السورية بعد إعلان الوحدة السورية – المصرية في سنة 1958، وقبل ذلك هجرة المسيحيين السوريين إلى لبنان من حوران ودمشق وحمص وحلب واللاذقية ووادي النصارى والحسكة، وعودة آلاف اللبنانيين من مصر وأفريقيا جرّاء سياسات التأميم التي اتبعتها مصر في أوائل ستينيات القرن المنصرم، ومصادرة أملاك الأجانب في الدول الأفريقية المستقلة حديثاً، والتي كانت رازحةً تحت الاستعمار الأوروبي. وعلى الرغم من ذلك كله، ما برح الأمير والوزير، وكل صغير وكبير، يزعم، ببلاهة، أن عدد المهاجرين اللبنانيين فاق الخمسة عشر مليوناً.
جينات كما تشتهي
لمعت في سماء المَهَاجر اللبنانية أسماء كثيرة في شتى صنوف الأعمال وضروب الحياة، بينها مَن يستحق التبجيل، وبينها من لا يليق به غير الضرب على القفا والعقب. وآخر النوابغ كان أمين معلوف في فرنسا، مع أن أصل عائلته يعود إلى قرية داما في جبل الدروز في سورية. وبالتوازي مع صعود النزعات العنصرية الجديدة، شُغلت إحدى الكاتبات بموضوع الجينات
فنشرت مقالة هذيانية عن جينات اللبنانيين، استندت فيها إلى كتابات الباحث بيار زلوعة في هذا الشأن. ولكنها قرأت نتائج أبحاث زلوعة بالمقلوب، فزعمت أن اللبنانيين ليسوا عرباً بل فينيقيين، علماً أن زلوعة يقول إن اللبنانيين والفلسطينيين والسوريين يمتلكون جيناتٍ متشابهة. وسخر منها مثقفون كثيرون عكفوا على التساؤل الاستنكاري: تُرى، من أين جاء الفينيقيون في الأساس؟ أَلم يأتوا من سواحل البحر الأحمر وسواحل بحر عُمان؟ إنهم عربٌ إذاً. والطريف أن أجداد هذه الكاتبة هبطوا لبنان من العراق في عهدٍ ليس بعيداً، وهم من بني لام الطائيين.
تجرأ وزير الخارجية اللبنانية، جبران باسيل، في إحدى خطبه البتراء، على الحديث عن جينات اللبنانيين المميزة، في سياق كلامه على المهاجرين الذين يحلو له أن يُسميهم "المنتشرين"، ويستعمل عبارة "الانتشار اللبناني" للإشارة إلى أولئك المهاجرين الذين لا يتورّع كثيرون منهم عن بيع لبنان بما فيه بقشرة بصلة أو بقرش مقدوح إذا تطلبت مصالحهم ذلك. وإذا كان أمين معلوف وكثيرون غيره مفخرة للبنان حقاً، فإن في مقابلهم أكداساً من اللبنانيين المهاجرين النّصابين يخجل المرء حتى من ذكر أسمائهم. ومع ذلك، سنذكر بعضهم أمثال كارلوس غصن المولود في البرازيل والمسجون في اليابان بتهم السرقة والكذب والاحتيال، وجورج نادر الموجود الآن في أحد سجون أميركا، بتهمة منحطّة، هي الاتجار الجنسي بالأطفال، علاوة على ميشال تامر (الرئيس الموقت للبرازيل) الذي تلاحقه عشرات قضايا الرشوة والفساد، وزياد تقي الدين تاجر الموت والسلاح، ومايك نصار ابن أخت العميل أنطوان لحد الذي باع المليشيات اليوغوسلافية (الصرب والكروات) الأسلحة الإسرائيلية التي كانت تستعملها "القوات اللبنانية" في الحرب اللبنانية، فساهم ذلك في المجازر القذرة التي شهدتها أقاليم يوغوسلافيا السابقة، خصوصاً بين الصرب والبوسنيين. وقد انتهى مايك نصار قتيلاً في ساو باولو.
أي جينات مميزة ومختلفة تلك التي تهر من أفواه هؤلاء المتحدثين الأميين وتوابعهم من الكُتّاب والصحافيين؟ ألا يعرف هؤلاء أن جينات اللبنانيين مخلوطة، فقد خالطتها جينات السوريين والفلسطينيين أيما اختلاط (الصحيح أنها واحدة)، فضلاً عن أن العائلات اللبنانية الكبرى كلها سورية الأصول، كأمراء آل شهاب (شهبا) وأبي اللمع (حلب) وأرسلان (معرّة النعمان)
والحرفوش (الجولان)، وكذلك آل جنبلاط (كلِس) وإدة (حوران) والجميّل (دمشق) والتويني (جبل الدروز) وفرعون (حوران) والصحناوي (صحنايا) وصفير (حوران) والبستاني (جبلة) واليازجي (حمص) وسكاف (حماة) وعون (جبل الدروز) ورياشي (حوران) والدويهي (صدد) وحبيش (إزرع) وتقلا (عمار الحصن) وكيروز (عين حليا) وأبو خاطر (إزرع) وتيان (حماة) وجريصاتي (إزرع) وعريضة (حمص) وغلمية (حوران). ولعل كثيرين لا يعرفون أن جينات القدّيس شربل مخلوف جاءت معه أو مع أهله من بلدة عين حليا السورية، وأن جينات البطريرك إلياس الحويك تكونت في بلدة سرغايا السورية، وكذلك جينات البطريرك يوحنا الحلو الآتي من بلدة عين حليا. ولا ننسى المطربة الكبيرة فيروز، فوالدها مهاجر سوري من ماردين، وسعيد عقل من بلدة إزرع الحورانية، والمطربة وداد (بهية فرج العواد) من حلب، وجورج وسّوف من حمص، ووالد ورد الخال ويوسف الخال هو الشاعر يوسف الخال من عمار الحصن في حمص، ووالدتهما مهى بيرقدار من دمشق. وهذا غيض قليل من عائلات كثيرة جداً من هذا الطراز والعيار. أرجو أن يدلني عالمٌ واحد على الجينات المميزة والمختلفة والفريدة لدى اللبنانيين، خصوصاً لدى المتزّعمين من ماركة لص ومرتشٍ وفاسد وحرامي وعميل ومحتال وطائفي ومتعصب وعنصري وفاشي ومليشيوي، وهؤلاء يشكلون اليوم نسبة كبيرة من الشعب اللبناني.
الشائع في الخطب الحزبية والكتابات السياسية أن ما لا يقل عن 150 ألفاً سقطوا في الحرب الأهلية اللبنانية (1975 – 1990)، علاوة على نحو 300 ألف جريح و17 ألف مفقود،
والرائج في أحاديث السياسيين أن عدد الفلسطينيين في لبنان تخطى عتبة النصف مليون، وأحياناً يدفعون الرقم إلى أعلى فيصبح ستمائة ألف. وكان الشاعر سعيد عقل قد قال يوماً: "إذا كان في مؤخرة رأس الفلسطينيين أن يبقوا عندنا فأهلاً بهم، ولكن لا فوق الثرى، فأرض لبنان تتسع لـِ 940 ألف قبر" (صحيفة الأحرار، بيروت: 5/10/1981). المهم، أن الرقم الساري في أفواه الزعماء، والرائج في أشداق الكُتاب هو خمسمائة ألف فلسطيني، خلافاً لأرقام مؤسسة رسمية لبنانية، تتبع إدارياً رئاسة الحكومة هي "لجنة الحوار اللبناني - الفلسطيني" التي أجرت، بالاشتراك مع مركز الإحصاء الفلسطيني، تعداداً للفلسطينيين في لبنان، اشتغل في نطاقه عدد وافر من اللبنانيين والفلسطينيين سنتين، وبطرائق محترفة وعلمية، وأُذيعت نتائج التعداد في 2017 بحضور ممثلي الأحزاب اللبنانية، فبلغ عدد سكان المخيمات أقل قليلاً من 175 ألف فلسطيني، يُضاف إليهم نحو خمسين ألفاً ممن يسكنون في المدن اللبنانية، لا في المخيمات، مع هامش خطأ معتاد في الإحصاءات المشابهة. ومع ذلك، ما برح السياسيون اللبنانيون يتغرغرون بالرقم خمسمائة ألف، ويشيحون عن الرقم الصحيح. وعلى هذا الغرار والمنوال يتم العبث بأعداد النازحين السوريين الذين وصل عددهم لدى بعض المخبولين إلى مليونين ونصف المليون فوق الأرض، ومعهم نصف مليون إضافي في أرحام النساء.
خرافة الاغتراب اللبناني
يحلو للبنانيين كثيرين أن يتفاخروا بأن أعداد المغتربين بلغت 15 مليون مغترب، وبالطبع من دون الاستناد إلى أي إحصاء أو وثيقة أو حتى دراسة متينة تقارب هذه المسألة مقاربة علمية. وفي هذا السياق، نشرت الكاتبة سلوى بعلبكي مقالة تجزم أن عدد المغتربين اللبنانيين في العالم
ثمّة مصادر أخرى تفيد بأن عدد اللبنانيين المهاجرين بلغ حتى سنة 1906 نحو 60 ألفاً فقط (راجع: الأمير محمد علي باشا، الرحلة الشامية، أبو ظبي: دار السويدي، 2002). وبطبيعة الحال، كان هناك اختلاط في أصول المهاجرين؛ فالجميع كانوا سوريين بحسب تعريف
ما لا يعرفه معتنقو فكرة "القومية اللبنانية" أو ترّهات "الفَيْنَقَة" أن هجرات خمساً متتالية ومعاكسة عوّضت تناقص عدد السكان في المناطق التي صار اسمها في سنة 1920 لبنان، حين أعلن المستعمر الفرنسي، الجنرال غورو، من قصر الصنوبر في بيروت (مقر الانتداب الفرنسي) ولادة دولة لبنان الكبير، هي: الهجرة الأرمنية التي ازدادت بعد انسحاب القوات الفرنسية من كيليكيا السورية في سنة 1922، والهجرة الكردية التي لم تتخذ شكل التدفقات البشرية، بل شكل التسلل التدريجي، والهجرة الفلسطينية في سنة 1948، والهجرة السورية بعد إعلان الوحدة السورية – المصرية في سنة 1958، وقبل ذلك هجرة المسيحيين السوريين إلى لبنان من حوران ودمشق وحمص وحلب واللاذقية ووادي النصارى والحسكة، وعودة آلاف اللبنانيين من مصر وأفريقيا جرّاء سياسات التأميم التي اتبعتها مصر في أوائل ستينيات القرن المنصرم، ومصادرة أملاك الأجانب في الدول الأفريقية المستقلة حديثاً، والتي كانت رازحةً تحت الاستعمار الأوروبي. وعلى الرغم من ذلك كله، ما برح الأمير والوزير، وكل صغير وكبير، يزعم، ببلاهة، أن عدد المهاجرين اللبنانيين فاق الخمسة عشر مليوناً.
جينات كما تشتهي
لمعت في سماء المَهَاجر اللبنانية أسماء كثيرة في شتى صنوف الأعمال وضروب الحياة، بينها مَن يستحق التبجيل، وبينها من لا يليق به غير الضرب على القفا والعقب. وآخر النوابغ كان أمين معلوف في فرنسا، مع أن أصل عائلته يعود إلى قرية داما في جبل الدروز في سورية. وبالتوازي مع صعود النزعات العنصرية الجديدة، شُغلت إحدى الكاتبات بموضوع الجينات
تجرأ وزير الخارجية اللبنانية، جبران باسيل، في إحدى خطبه البتراء، على الحديث عن جينات اللبنانيين المميزة، في سياق كلامه على المهاجرين الذين يحلو له أن يُسميهم "المنتشرين"، ويستعمل عبارة "الانتشار اللبناني" للإشارة إلى أولئك المهاجرين الذين لا يتورّع كثيرون منهم عن بيع لبنان بما فيه بقشرة بصلة أو بقرش مقدوح إذا تطلبت مصالحهم ذلك. وإذا كان أمين معلوف وكثيرون غيره مفخرة للبنان حقاً، فإن في مقابلهم أكداساً من اللبنانيين المهاجرين النّصابين يخجل المرء حتى من ذكر أسمائهم. ومع ذلك، سنذكر بعضهم أمثال كارلوس غصن المولود في البرازيل والمسجون في اليابان بتهم السرقة والكذب والاحتيال، وجورج نادر الموجود الآن في أحد سجون أميركا، بتهمة منحطّة، هي الاتجار الجنسي بالأطفال، علاوة على ميشال تامر (الرئيس الموقت للبرازيل) الذي تلاحقه عشرات قضايا الرشوة والفساد، وزياد تقي الدين تاجر الموت والسلاح، ومايك نصار ابن أخت العميل أنطوان لحد الذي باع المليشيات اليوغوسلافية (الصرب والكروات) الأسلحة الإسرائيلية التي كانت تستعملها "القوات اللبنانية" في الحرب اللبنانية، فساهم ذلك في المجازر القذرة التي شهدتها أقاليم يوغوسلافيا السابقة، خصوصاً بين الصرب والبوسنيين. وقد انتهى مايك نصار قتيلاً في ساو باولو.
أي جينات مميزة ومختلفة تلك التي تهر من أفواه هؤلاء المتحدثين الأميين وتوابعهم من الكُتّاب والصحافيين؟ ألا يعرف هؤلاء أن جينات اللبنانيين مخلوطة، فقد خالطتها جينات السوريين والفلسطينيين أيما اختلاط (الصحيح أنها واحدة)، فضلاً عن أن العائلات اللبنانية الكبرى كلها سورية الأصول، كأمراء آل شهاب (شهبا) وأبي اللمع (حلب) وأرسلان (معرّة النعمان)