عاد الأمين العام السابق لحزب "الاستقلال" المغربي، حميد شباط، إلى الرباط، أخيراً، بعدما كان غادر البلاد قبل عامين، إثر صراعٍ سياسي مرير، خسر فيه كلّ ما بناه من مجد، أي قيادة أعرق الأحزاب المغربية وذراعها النقابية وعمادة مدينة فاس. وبينما تزامنت المغادرة مع سوء فهم بينه وبين السلطة، حيث كان هناك توجه داخلها للتخلص من "السياسيين الشعبويين" الذين سيطروا على الساحة السياسية المغربية في مرحلة ما بعد الربيع العربي، تدور أسئلة كثيرة حول أسباب عودة شباط، وسط حديث عن عودة "شعبوي" آخر، هو الأمين العام السابق لحزب "الأصالة والمعاصرة" إلياس العماري، وذلك على بعد أقل من عام عن استحقاق الانتخابات التشريعية.
ومنذ مغادرته المفاجئة للبلاد، التزم الأمين العام السابق لحزب "الاستقلال" الصمت، متفرغاً لإدارة أعماله ومشاريعه في منفاه الاختياري بين تركيا وألمانيا. ولم يكن المغاربة يتذكرون شباط، إلا حين كان اسمه يتصدّر، ولأكثر من مرة، قائمة النواب المتغيبين داخل البرلمان، والذين كانت أسماؤهم تتلى في بداية كلّ جلسة أسبوعية لمجلس النواب (الغرفة الأولى للبرلمان المغربي)، كعقاب لهم عن تغيبهم لأكثر من 3 جلسات.
عودة حميد شباط، تزامنت مع ترويج أنصاره، أنه سيخوض معركة استرجاع مدينة فاس من يد "العدالة والتنمية"
وكما غادر المغرب سرّاً، عاد شباط، لكن هذه المرة، بضجة كبيرة، وجدل واسع رافق تلك العودة في الأوساط السياسية والشعبية، إثر ظهوره المفاجئ في جلسة برلمانية يوم الإثنين الماضي. وفي لحظة واحدة، بدا أن عودة الرجل ليست بريئة، بعدما قيل في معرض تفسير رحيله عام 2018، إنه فهم أن "الدولة لم تعد ترغب فيه"، بعدما انتهى سياسياً منذ فقدانه الأمانة العامة لـ"الاستقلال" في أكتوبر/تشرين الأول 2017، ونقابة "الاتحاد العام للشغالين" التي تمّ طرده من مقرها في العاصمة.
ومما زاد من حجم تلك التكهنات والقراءات، أن عودة حميد شباط، تزامنت مع ترويج أنصاره، أنه سيخوض معركة استرجاع مدينة فاس من يد إدريس الأزمي الإدريسي، القيادي في حزب "العدالة والتنمية"، وأنه دعا إلى التعبئة لخوض معركة انتخابية حامية، لتقليص حجم هيمنة الإسلاميين على فاس، وإعادتها إلى حضن الاستقلاليين.
وفيما يلتزم شباط الصمت حتى الساعة، مؤكداً أنه "يفضّل حالياً منح وقته لأسرته الصغيرة والكبيرة"، ألقى الخروج المفاجئ لمن يُنظر إليه في المغرب على أنه نجم "الشعبوية" الأول، رئيس الحكومة السابق عبد الإله بنكيران، بظلاله على المشهد السياسي برمته. واختار بنكيران كسر التزامه الصمت منذ أشهر، من خلال خطاب جمع بين السياسي والديني، بثّه يوم الخميس الماضي على حسابه في موقع التواصل الاجتماعي " فيسبوك"، وذلك على خلفية التصريحات الأخيرة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حول الإسلام، وكذلك العمليات الإرهابية التي شهدتها فرنسا.
وبدا لافتاً أن بنكيران، الذي يقال إن قياديين في حزب "العدالة والتنمية" يعملون على تمهيد طريق عودته السياسية، من خلال مبادرة "النقد والتقييم" التي تضع على رأس أولوياتها عقد مؤتمر استثنائي بهدف "تصحيح مسار الحزب"، لم يفقد الكثير من قدراته على إثارة الاهتمام جراء تواريه عن الأضواء. وتمكن رئيس الوزراء المغربي السابق، خلال ساعات قليلة، من استقطاب ثلاثمئة ألف مشاهدة لخطابه، وهو رقم يعجز عن تحقيقه أي سياسي آخر في البلاد.
كما بدا مثيراً للاهتمام، أن عودة شباط إلى نشاطه السياسي، والخروج المفاجئ لبنكيران، تزامنا مع تداول أخبار عن عودة نجم آخر من "نجوم الشعبوية"، وهو الأمين العام السابق لحزب "الأصالة والمعاصرة" إلياس العماري، الذي يبدو أنه عاد بدوره إلى البلاد بعدما كان اختفى عن الأنظار إثر قراره الاستقالة في أغسطس/آب 2017 من رئاسة الحزب. وجاءت استقالة العماري حينها، مباشرة بعد خطاب للعاهل المغربي محمد السادس، هاجم فيه الطبقة السياسية المحلية، ومسؤولين ومنتخبين، ودعاهم إلى الانسحاب والاستقالة. وخلال غيابه، فضّل العماري الاستقرار في منفاه الاختياري بإسبانيا، حيث يدير أعماله ومشاريعه الاستثمارية.
عودة الزعامات "الشعبوية" من جديد إلى المشهد السياسي المغربي لم تكن لتمر مرور الكرام، إذ عاد معها الحديث عن عودة الخطاب الشعبوي، الذي أصبح منذ هبوب رياح الربيع العربي على المغرب في العام 2011 أسلوباً مميزاً للخطاب السياسي في البلاد، تزامناً مع صعود قيادات حزبية. وكان لافتاً، حينها، ارتفاع منسوب استخدام هذا النوع من الخطب السياسية، لمواجهة شعبوية بنكيران، المفترضة، بتعبئة شعبويين مماثلين من اليسار والوسط، ما أدخل المغرب في معارك سياسية خطابية لم تخلُ من التلاسنات الحادة والعنف الرمزي والمادي أحياناً، والفضائح التي تتسرب من هنا وهناك.
واستمر هذا الوضع، الذي يمثل رداً مغربياً على موجة الربيع العربي، لغاية انطلاق موجة السقوط المضاد التي دفعت في اتجاهها أطرافاً في الدولة لا سيما بعد تصدّر الإسلاميين، مجدداً، للمشهد الحزبي في انتخابات 2016. وبدأ الأمر بسقوط شباط، وتبعه بنكيران، لينتهي بسقوط العماري. ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه الآن: ما الهدف من بعث الروح في زعامات حوّلت المشهد السياسي إلى مساحة للمزايدات السياسية والخطابات العاطفية البعيدة عن منطق الواقعية السياسية والإمكانيات الحقيقية للدولة؟
تذهب تحليلات وقراءات عدة إلى ربط عودة الزعامات الشعبوية إلى الظهور، بعدما كانت قد اختفت غداة انتخابات 2016، إثر استنفاد مهامها المتمثلة في منافسة ومزاحمة بنكيران خطابيا بالأساس، بوجود نيّة لـ"تطعيم الحقل السياسي المغربي بشعبويين" قادرين على استمالة عواطف الناس، واحتواء الاحتقان الشعبي. ويأتي ذلك في ظروف سياسية انتخابية تتزامن مع وضع وبائي غير مستقر تعيشه البلاد جراء انتشار فيروس كورونا. ويضع هذا الوضع الحكومة الحالية، ومعها المؤسسات، أمام امتحان صعب يتمثل في التصدي للجائحة وتداعياتها الوخيمة اقتصادياً واجتماعياً.
يجري الحديث في المغرب عن وجود نيّة لتطعيم الحقل السياسي بشعبويين قادرين على استمالة الناس واحتواء احتقانهم
ويقول قيادي حزبي، طلب عدم ذكر اسمه، لـ"العربي الجديد"، إن بعض الممسكين بخيوط المشهد السياسي المغربي، يعتقدون أن مقاومة ما يعتبر شعبوية يعتمدها حزب "العدالة والتنمية"، قائد الائتلاف الحكومي الحالي، تحضيراً للانتخابات البلدية والبرلمانية المنتظرة صيف 2021، يقتضي شعبوية مضادة. وبرأي المصدر، فإنه "يبدو أن جهات في الدولة لا تتوانى عن العودة إلى نفس الوصفات القديمة الفاشلة من أجل تحجيم الإسلاميين، مع ما يمثله ذلك من انعكاس على ثقة المواطنين في خطاب الأحزاب". ويذهب القيادي الحزبي، في تحليله لعودة رموز الشعبوية إلى المشهد السياسي المغربي، للاعتبار أن نجم "الشعبوية" الأول في المملكة، بنكيران، أصبح مطلوباً حتى من قِبل جهات في الدولة، بالنظر إلى الحاجة في الظروف السياسية المقبلة إلى رجالات دولة باتوا مفقودين خلال التجربة الحالية.
من جهتها، ترى الباحثة في العلوم السياسية شريفة لموير، أنه في الوقت الذي يفرض فيه التحلي بالكثير من المسؤولية وروح المواطنة في التعامل مع المرحلة من جهة، والعمل على تجاوز أزمة الثقة في الفاعل السياسي المغربي من جهة ثانية، يظهر جلياً من خلال عودة "الزعامات الشعبوية" إلى المشهد، أن الهاجس الانتخابي والظفر بأعلى نسبة من الأصوات، هو ما يوحّد توجهات هذه الوجوه، في الوقت الذي تعمق هذه الممارسات من تبخيس العمل السياسي. وتؤكد لموير، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن هذا الوضع يترجم العقم السياسي الحقيقي الذي يعرفه المغرب من خلال أزمة تجديد النخب السياسية في المشهد السياسي. وتعتبر الباحثة السياسية أن "الرهان الأساسي اليوم، في ظلّ الظروف التي تفرضها أزمة كورونا، هو تكثيف الجهود لرأب صدع ضعف الثقة في الممارسة السياسية وإنجاح المرحلة الانتخابية المقبلة التي سيشهدها المغرب على بعد أقل من عام".
في كل الأحوال، ومع اختلاف الدوافع التي يتم تقديمها بشأن عودة فتح الباب على مصراعيه لرياح الشعبوية التي كانت قد حملت لقيادة الأحزاب والحكومة شخصيات سياسية مثل بنكيران وشباط والعماري، فإن المؤكد أن المشهد السياسي في المغرب قد يعيش إحدى أصعب فترات مساره، جرّاء ما قد تجلبه تلك العودة من خيبة أمل المغاربة إزاء مؤسساتهم الديمقراطية، وتفاقم أزمة الثقة فيها وفي العملية السياسية والانتخابية بكاملها. هذا بالإضافة إلى ما يحمله ذلك من مخاطر مقاطعة صناديق الاقتراع في انتخابات 2021 في سياق مضطرب دولياً وصعب وطنياً.