تمضي "هيئة تحرير الشام" (جبهة النصرة سابقاً) بخطى سريعة نحو إعادة رسم صورة لها تبعد عنها صفة التشدد التي ما تزال ملتصقة بها، رغم عمليات التجميل التي اتبعتها سابقاً بدءاً بتغيير اسمها، وصولاً لاستبعاد الكثير من الأسماء، وليس انتهاء بمحاربة المجموعات المنشقة عنها التي عادت لتنظيم صفوفها في مجموعات أكثر تطرفاً تتبنى فكراً أقرب لتنظيم "القاعدة"، وهي المجموعات التي حجمتها معارك "الهيئة" ضدها في الآونة الأخيرة.
ويبدو أن "الهيئة" تسير نحو تغيير جذري، لا يرتبط فقط بالمظهر والشكل وحسب، وإنما يطاول الأفكار والمنهج والقواعد الفقهية التي تبناها التنظيم سنوات. وكان لافتاً البيان الذي أصدرته قبل يومين وتبرأت فيه من عاصم البرقاوي، المعروف بأبو محمد المقدسي، الذي يعد واحداً من منظري الحركات السلفية - الجهادية المعاصرين، والذي تبنت "الهيئة" أفكاره وقدمتها كدليل شرعي لمنتسبيها خلال إعدادهم في المعسكرات والدروس الدينية والشرعية.
واتهمت "الهيئة" في بيانها المقدسي بأنه "من الشخصيات التي كان لها أثر سيئ في ساحة الشام"، منتقدة استغلاله ثورات الربيع العربي وركوب موجتها للترويج لنفسه، معلنة براءتها منه بالقول: "نحن منه ومن منهجه براء، فليس منا ولسنا منه ولا على طريقته، ونفرّق بين منهجه البدعي في التوحيد وبين منهج التوحيد الذي تلقيناه عن أهل العلم سلفًا وخلفًا".
وفي تعليقه على هذه الخطوة، قال الباحث المختص في الجماعات الإسلامية، عباس شريفة، إن "المقدسي هو من تبرأ بداية من (تحرير الشام)، واعتبرهم مجرد كذبة مرتكبين لنواقض الإسلام، ووقف مع (جند الأقصى) و(حراس الدين) ضد (تحرير الشام) ورفض وصف (داعش) بالخوارج".
وأضاف قائلا في تصريح لـ "العربي الجديد": "وما كانت (تحرير الشام) لتتبرأ منه لولا أن وبَل التكفير وصل للحيتهم"، موضحا أن "الهيئة قاتلت (حركة حزم) و(جبهة ثوار سوريا) و(الفرقة١٣) بفتاوى المقدسي التكفيرية، وحشدت جنودها الغلاة بفتاويه لقتال الجيش الحر، وعندها كان شيخهم وأستاذ التوحيد واليوم أصبح من الغلاة!".
وتابع قائلا إن "المقدسي لم يتغير و(تحرير الشام) هي من تغيرت فهل يقرون أنهم كانوا غلاة خوارج عندما كانوا على دين المقدسي"، موضحاً أن "الهيئة تريد أن ترمي عن كاهلها العبء الثقيل من الانتماء للسلفية الجهادية فكرياً وتنظيمياً".
وأردف "بالنسبة للانتماء التنظيمي فقد تخلت الهيئة عنه منذ إعلان فك الارتباط وفك البيعة عن تنظيم القاعدة، عندما أسست (فتح الشام)، قبل تغير المسمى لـ (هيئة تحرير الشام) ويومها بارك المقدسي فك الارتباط على أساس أنه تم بمباركة زعيم القاعدة أيمن الظواهري، لكن حين علم بأن الظواهري غير راض عن ذلك، عاد وهاجم الهيئة".
وزاد موضحاً "أما بالنسبة للانتماء الفكري، فإن الهيئة تحاول اليوم من خلال هذا البيان أن تحدث القطيعة الفكرية والأيديولوجية مع أدبيات السلفية الجهادية ومشايخها ورموزها، في سبيل الوصول إلى وضع جديد تكون فيه فصيلاً محلياً مقبولاً شعبياً ولا يقاتل خارج الحدود، مع تلبية المعايير التي تجعل الغرب يعيد النظر بها ليقبلها كفصيل محلي لا يحمل أفكاراً متطرفة، في مقدمة للتعامل معها وعدم استهدافها والبحث عن مستقبل سياسي".
ويربط شريفة نجاح "الهيئة" في تحسين صورتها على هذا النحو "بالمتغيرات الكثيرة ومنها موقف الدول المؤثرة في الملف السوري، لكن الأهم هو إحداث تغيير في الخطاب السياسي للهيئة بتبني مفاهيم المواطنة والديمقراطية والتداول السلمي للسلطة وتبني الحل السياسي وفقاً للقرارات الدولية، وإذا أقدمت (تحرير الشام) على هذه الخطوة واستبعدت بعض القيادات المصنفة إرهابية، ربما يكون لها مستقبل سياسي بأفرادها الحاليين من السوريين، الذين لا يحملون فكراً متطرفاً".
وصدر بيان "الهيئة" على إثر اتهام المقدسي لها بالتعامل مع المخابرات التركية، بعدما اعتبر أنها باتت "سنداً وعوناً وذنباً لاستخبارات دولة علمانية عضو في حلف الناتو".
وبدا واضحاً ميل "الهيئة" لتغيير صورتها وجعلها مقبولة دولياً، منذ قبولها بالاتفاق الروسي – التركي حول إدلب في بداية مارس/ آذار من العام الحالي، بل وشاركت في تنفيذ مخرجاته من خلال حمايتها للدورية الروسية – التركية المشتركة على الطريق الدولي حلب – اللاذقية "أم 4". وكان القيادي في "هيئة تحرير الشام" عبد الرحيم عطون تحدث في وقت سابق من الشهر الماضي مع صحيفة سويسرية عن عدم وجود مانع من إقامة علاقات مع دول غربية تقف مع الثورة، بالإضافة لإشارته لمحاولة "الهيئة" إيصال صورة حقيقة عنها.
وعمدت "الهيئة" كذلك إلى مواجهة فصائل متشددة بغية تصفيتها، وتلك فصائل عارضت الاتفاق الروسي – التركي الأخير في إدلب، التي ينتشر شمالها تنظيمات متشددة على نطاق ضيق كـ "حراس الدين"، وهو أول فصيل يرفض الاتفاقات بين روسيا وتركيا حول، لكونه يقدّم نفسه كممثل عن تنظيم "القاعدة" في سورية، بالإضافة لتنظيمات "جبهة أنصار الدين"، و"الحزب التركستاني في بلاد الشام"، و"أنصار التوحيد".
وتجمعت بعض هذه الفصائل وغيرها ضمن ما أطلق عليها غرفة عمليات "فاثبتوا"، والتي شكلت بعد انشقاقات في قيادة "هيئة تحرير الشام"، وضمت الغرفة خمسة فصائل، هي "تنسيقية الجهاد"، و"لواء المقاتلين الأنصار"، وجماعة "أنصار الدين"، وجماعة "أنصار الإسلام"، وتنظيم "حراس الدين"، إلا أن "الهيئة" عمدت إلى تصفيتها جبراً، من خلال اعتقالات طاولت بعض قيادييها، اندلعت على إثرها اشتباكات في إدلب، نهاية يونيو/ حزيران الماضي.