بعد تسويفات وتأكيدات ووعود حول إعادة فتح القنصلية الأميركية المختصة بالشؤون الفلسطينية في القدس الشرقية، رست إدارة الرئيس جو بايدن، أخيراً، على إنشاء "مكتب الشؤون الفلسطينية" بدلاً من "وحدة الشؤون الفلسطينية" التي أُنشئت داخل السفارة الأميركية في الأراضي المحتلة كبديل للقنصلية التي أغلقت بعد اعتراف إدارة الرئيس دونالد ترامب بالقدس عاصمة للدولة العبرية عام 2019.
الجديد في التغيير من "وحدة" إلى "مكتب" أن هذا الأخير يتعامل رأساً مع وزارة الخارجية الأميركية "قسم الشرق الأدنى" ويتلقى التعليمات والتوجيهات مباشرة منه، من دون مرور المراسلات والمعاملات والتقارير بالسفارة الأميركية ولا بمكتب السفير. والباقي على حاله.
نسبياً وبمقاييس إدارة بايدن، تشكل هذه "الفذلكة" الدبلوماسية غير المسبوقة نقلة ولو ضحلة ومتأخرة. الإدارة الأميركية تريد بها القول إنها فتحت القنصلية ولو داخل مبنى السفارة. مع ذلك وعلى الرغم مما فيه من تدوير للزوايا يبقى السؤال: هل هي خطوة دبلوماسية مفتوحة على التطوير أم أنها مجرد تدبير إداري جاءت به كترضية للجانب الفلسطيني تعويضاً عن تراجعها عن وعدها بإعادة فتح القنصلية في مكانها الأساسي؟
الخارجية الأميركية تقول إن هذا التغيير يرمي من جملة أغراضه إلى "تعزيز المراسلات الدبلوماسية" بين واشنطن والجانب الفلسطيني. في ظاهره يستبطن كلامها نيّة التطوير. لكن في باطنه لا يتعدّى التغطية ولو أن الوزارة حرصت في بيانها على التمسك بفتح القنصلية. فهذه الأخيرة قائمة بهذه الصفة منذ سنة 1928. وقد اعتمدتها سائر الإدارات الديمقراطية والجمهورية ولغاية رئاسة ترامب التي كسرت السائد والمعمول به في القدس.
والرئيس بايدن الذي تعهّد بالانقلاب على توجهات وسياسات ترامب الخارجية أوفى بوعده في معظم الحالات إلا الحالة الفلسطينية. موضوع إعادة العلاقات وفتح البعثة الفلسطينية في واشنطن غاب تماماً عن خطاب إدارته التي تذرعت بقانون محاربة الإرهاب لعام 1987 ووقف العمل باستثناء منظمة التحرير الفلسطينية من هذا القانون والذي جرى اعتماده بعد أوسلو.
أيضاً؛ موضوع حلّ الدولتين الذي اقتصر موقف إدارة بايدن منه بتكرار التزامها به لكن من دون طرح أي مبادرة ولا حتى تعيين مبعوث خاص للملف الفلسطيني على غرار ما فعلته الإدارات السابقة، ولو أن مهمة المبعوثين انتهت عملياً إلى مساعدة إسرائيل في شراء الوقت وتوسيع الاستيطان.
في النهاية بقي موضوع القنصلية يطاردها، خاصة في المؤتمر الصحافي اليومي في وزارة الخارجية. ومع اغتيال قوات الاحتلال للصحافية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة في مايو/ أيار الماضي، ازدادت الضغوط وصارت الإدارة محرجة وبحاجة للقيام بخطوة ما تجاه الفلسطينيين فكانت بدعة "مكتب الشؤون الفلسطينية" في السفارة من غير علاقة للسفارة به.
بالقياس التراتبي يعتبر المكتب أعلى من القنصلية، أو هذا ما تريد الإدارة الإيحاء به. لكن يبقى ما إذا كان هذا الترتيب الجديد قادراً على العمل كقناة مستقلة فعلاً حسب ما تقول الخارجية، وبما يؤدي إلى ترسيخ خط من التواصل المباشر بين الادارة والسلطة الفلسطينية وقادر على تأسيس علاقات يمكن توظيفها لاحقاً في خطوات أوسع.
ومثل هذا التدبير الاستثنائي يفترض أن يكون جسر عبور ولفترة محدودة لأنه لا ضمانة بأن تلتزم به أي إدارة قادمة ما لم تحصل مأسسته، وهذا أمر مستبعد في ضوء التحرك البطيء لإدارة بايدن التي تخشى "اهتزاز التركيبة الحكومية الإسرائيلية" لو عملت على "فرض قضية القنصلية،" كما تلمح أوساطها.
لكن واقع الحال أن إدارة بايدن تراجعت أمام الـ"لا" الإسرائيلية في موضوع القنصلية لتكتفي بخطوة رمزية تزعم أنها واعدة. يقول المثل الشعبي "لو كان في الجو مطر لكانت السماء مغيّمة". والحركة التي قامت بها الإدارة الأميركية لا تغير في القاعدة المزمنة التي لا يبدو أن بايدن قادر على الخروج عليها والتي تنتهي في آخر المطاف إلى الجائزة لإسرائيل والترضية - في أحسن الأحوال - لفلسطين.