ظاهريا، تبدو العاصمة الفنلندية هلسنكي كباقي المدن والعواصم الإسكندنافية. لكن تحت عمرانها في السطح، تتوارى هلنسكي أخرى، تحتضن ملاجئ لإيواء 650 ألفا من القاطنين فيها، ونحو 300 ألف مكان إضافي مخصص لضيوفها والسائحين.
لم يوفر الفنلنديون وقتا في ذروة الحرب الباردة لينحتوا في الصخور مشيدين تحت الأرض أمكنة تحميهم من أي ضربات نووية تطاول عاصمتهم، تضاف إلى نحو 5 آلاف ملجأ نووي آخر منتشرة في عموم البلد.
بالطبع الأمر لم يعد سرا للروس الذين يعرفون جارهم الصغير العنيد الذي رفض أن يكون جزءا من القيصرية، ولاحقا واحدا من "الجمهوريات السوفييتية".
تزايد الحديث عن هلسنكي السفلية منذ مايو/أيار الماضي، مقترنا بإظهار الفنلنديين لعضويتهم في حلف شمال الأطلسي، المزعجة لموسكو، وأنها لا تعني أنهم غير قادرين على الدفاع عن بلدهم بأنفسهم، منذ اشتداد وتيرة الحرب الباردة بعد الحرب العالمية الثانية. وللفلنديين ثقافتهم الخاصة في مقاومة الغزو، وهم مستعدون لأن يتحولوا إلى حملة سلاح عند الضرورة.
في تصريحات صحافية سابقة، قالت مديرة الاتصالات في خدمة الإنقاذ في هلسنكي، آنا ليتراناتا: "كدولة محايدة شعرنا دائمًا أنه يتعين علينا حماية أنفسنا، ونحن نفعل ذلك. وتأتي الملاجئ المشيدة بناء على تجاربنا خلال حرب الشتاء (1939-1941) والحرب العالمية الثانية، إذ لدينا جميعًا أقارب عانوا من تلك الصدمات".
عودة الحديث عن ملاجئ فنلندا مرتبطة تماما بتطورات الحرب في أوكرانيا، وتوتر العلاقة مع موسكو على خلفية عضوية فنلندا في حلف الأطلسي، ودخول الغرب في مواجهة حامية مع الكرملين وإن كانت غير مباشرة في أوكرانيا.
ملاجئ غير اعتيادية
امتدادا لهلسنكي الظاهرة، تقبع تحتها حمامات السباحة والساونا، وحلبة تزلج وملعب كرة قدم وميدان للرماية وحلبة هوكي. مقاه ومطاعم ومتاجر ومسرح كبير، عدا عن العيادات والمشافي والكنيسة، ومواقف لسيارات الكارت الصغيرة، وبعض مراكز تسوق من طابقين ومؤسسات بعمق أربعة طوابق، هذا كله من بين أشياء كثيرة تضمها المدينة تحت الأرض.
في متاهات هذه المدينة النووية لم يُترك شيء للصدفة، فهي مجهزة بمخازن أغذية إستراتيجية تكفي 950 ألف إنسان لأسبوعين كاملين. ولتزويدها بالكهرباء ربطت بمحطات مستقلة محمية من القصف، إلى جانب المياه واللوازم الأخرى.
تتبنى هلسنكي بصرامة مبدأ أن "كل إنسان، مهما كانت صفة تواجده على الأرض الفنلندية مشمول بالحماية ذاتها على قدم المساواة مع المواطنين".
في فنلندا، يجد أكثر من 80 في المائة من السكان، أي نحو 4.4 ملايين إنسان، ملاجئهم بسهولة على امتداد الخريطة الفنلندية. ويستطيع البلد المرتبط بحدود مع روسيا تمتد لنحو 1340 كيلومترا حشد نحو 900 ألف مقاتل بحسب وزارة الدفاع.
كما ارتفع صرف هلسنكي على التسليح ليصل إلى نحو 1.96 في المائة من الناتج الإجمالي، أي حوالي 5 مليارات دولار، وتعاقدت في نهاية 2021 على استيراد 64 طائرة إف 35 الأميركية، بأكثر من 8 مليارات دولار، ما يعتبر أكبر موازنة عسكرية في تاريخ البلد.
لبناء المدينة النووية من 500 قطاع متصلة لتشكل ملجأ كبيرا أزيل نحو 9 ملايين متر مكعب من الصخور الأساسية تحت هلسنكي. حولت السلطات 25 محطة مترو عميقة تحت الأرض إلى جزء من سياسات حماية أشمل من الهجمات النووية، وتوسعت في تشييد 5000 ملجأ تحت الأراضي الفنلندية تضم معظم خدمات مجتمعات السلم.
عايشت هلسنكي قصفا سوفييتيا في مراحل مختلفة منذ 1939 وحتى 1944، وقضى الآلاف من سكانها الذين كانوا أقل عددا مما هم عليه اليوم. والسياسة العمرانية في فنلندا اليوم تقوم على تشييد وتجهيز ملاجئ بأحجام مناسبة للسكان، وفي حالة الطوارئ تعرف قطاعات الخدمات ما يتوجب عمله، مزودة بخطط تشمل كل شيء، حتى مواقع الأطباء والممرضين، وإن كان عليهم أن يتواجدوا فوق الأرض أو تحتها لحظة وقوع الهجوم. كذلك يعرف المشرفون على مؤسسات رعاية الصغار وكبار السن أدوارهم وأمكنتهم وجداولهم الزمنية.
"الستار الحديدي" الجديد
تبرز مجددا أهمية الملاجئ في الدول الإسكندنافية، فتعمل السويد والدنمارك والنرويج أيضا على تأهيلها مجددا، خصوصا تلك التي شيدت في ذروة الحرب الباردة، ما يفسر محليا بالعودة إلى "الستار الحديدي" العبارة التي استخدمها ونستون تشرشل لوصف سياسة العزلة التي انتهجها الاتحاد السوفييتي بعد الحرب العالمية الثانية ممثلة في حواجز تجارية ورقابة صارمة، عزلت البلاد ودول أوروبا الشرقية عن بقية العالم. لكن "الستار الحديدي" الجديد بات أكثر امتدادا وعمقا. من منطقة القوقاز جنوبا على طول الخط الذي أصبحت أوكرانيا وباقي دول شرق أوروبا جزءا منه، وصولا إلى انحياز دول البلطيق إلى غرب الخط وشمالا إلى الحدود الفنلندية والنرويجية مع روسيا.
Athletic air-raid shelters in Finland http://t.co/bCdino8ckv pic.twitter.com/NydlaLoD5s
— Ivan sylvester (@Funismatter) July 31, 2015
في المجمل، وسط حرب ساخنة هذه المرة، هي "حرب بالوكالة" في أوكرانيا، تبدو فنلندا أفضل حالا بكثير من جيرانها. ليس فقط بفضل بنيتها التحتية القادرة على الصمود في وجه رياح نووية، بل بفضل ثقافة عامة تتضمن سياسة دفاعية تاريخية متواصل حربا وسلما، تجعل حمل السلاح أكثر ليونة وتنظيما. وبعد أن تحولت "هلسنكي السفلية" منذ العام 1995 إلى مدينة ترفيه بمسابحها ومضمار سباق سيارات الكارتينغ، تعاظمت أهمية هلنسكي السفلية، مع عودة الغزو الروسي لأوكرانيا وعضوية البلد في الأطلسي، بوصفها ملجأ، والأمر يصح على عموم ملاجئ فنلندا.