يدل المشهد السياسي التونسي على عودة تدريجية إلى حالة الاستقطاب الثنائي بين متنافسيْن رئيسيين، هما هذه المرة حركة "النهضة" والحزب "الدستوري الحر"، مثلما كان الأمر في السابق بين "النهضة" و"نداء تونس".
ولم يكتف "الدستوري الحر"، ورئيسته عبير موسي، باستهداف خصمه في البرلمان، في محاولة لتعطيل أي منجز يُحسب له سياسياً، بل اتجه الحزب لما يشبه البلطجة في الشارع، عبر اقتحام أنصاره ورئيسته مقرّ اتحاد العلماء المسلمين في تونس، الثلاثاء الماضي، بما أجج التوترات في البلاد.
نجحت موسي، عبر استراتيجية الضغط على "النهضة"، في احتلال الفضاء السياسي المقابل للحركة
ونجحت موسي، عبر استراتيجية الضغط على "النهضة" في كل فضاء سياسي وإعلامي متاح، في احتلال الفضاء السياسي المقابل للحركة، وتجاوز الأحزاب التي كانت تنوي لعب هذا الدور من المعارضة، مثل "التيار الديمقراطي" و"الشعب"، وحتى حزبي "قلب تونس" و"تحيا تونس"، خلال الحملات الانتخابية الماضية، حتى أصبحت موسي تقريباً المعارض الأبرز لحزب راشد الغنوشي، وفي صدارة المشهد المعارض له ولحزبه، بعد تراجع بقية المعارضة التي تكتفي بالتفرج على هذا الصراع. ولكن هذا التنافس لم يقتصر فقط على البرلمان والفضاء الإتصالي والإعلامي والاجتماعي، وإنما خرج إلى الشارع مبكراً جداً، أي قبل الانتخابات المقبلة بنحو أربع سنوات، ما يعني اشتداد الصراع من جهة، والإنذار بخطورة انحرافه من جهة أخرى.
وأصبح التنافس على الشارع جلياً من خلال خروج موسي إلى مدن المنستير وسوسة وباجة، في محاولة لاستعراض شعبيتها في هذه المناطق، في حين ضربت "النهضة" بقوة وخرجت مباشرة في العاصمة، لتُظهر مدى شعبيتها وقدرتها على التنظيم، وتحاول تكذيب نتائج استطلاعات الرأي التي تُظهر تقدّم "الدستوري الحر" على "النهضة" في نوايا التصويت للانتخابات التشريعية أو الرئاسية.
وعلى الرغم من أنه لا يزال من المبكر الإقرار بوجود حالة استقطاب سياسي بين "النهضة" و"الدستوري الحر"، إلا أن كل عمليات التوقعات الاستباقية تظهر حالياً وجود هذا النوع من التنافس. وأكد مدير مؤسسة "أمرولد كونسيلتينغ" نبيل بالعم، أن نتائج استطلاعات الرأي الحالية تظهر أن الاتجاه السائد حالياً يسير نحو الاستقطاب الثنائي. فأرقام شهري فبراير/شباط ويناير/كانون الثاني الماضيين تبيّن أن الحزبين الأول والثاني هما "الدستوري الحر" و"النهضة"، وكلاهما كسب نقطة مقارنة بشهر يناير ("الدستوري" تقدّم من 41 في المائة إلى 42 في المائة، و"النهضة" من 19 إلى 20 في المائة) في حين أن بقية الأحزاب سجلت تراجعاً. وتابع بالعم، في حديث مع "العربي الجديد"، أن الفارق بين الحزب الثاني "النهضة"، والحزب الثالث "قلب تونس" أو "التيار الديمقراطي" (يتغير الترتيب بينهما من شهر لآخر) لا يزال كبيراً (حصل كلاهما على نسب لا تفوق 8 في المائة من نوايا التصويت).
تستأثر "النهضة" و"الدستوري الحر" معا بنحو 60 في المائة من أصوات المصرحين بنيّتهم المشاركة في الانتخابات
وأوضح بالعم أن "النهضة" و"الدستوري الحر" يستأثران معا بنحو 60 في المائة من أصوات المصرحين بنيّتهم المشاركة في الانتخابات، في حين أن الـ40 في المائة المتبقية موزعة بين بعض الأحزاب المعروفة، كـ"قلب تونس" و"التيار الديمقراطي"، وبنسبة أقل لـ"تحيا تونس"، والبقية لصالح عدة أحزاب صغرى لا وزن لها. ولفت إلى أن الصورة تشبه "النهضة" و"نداء تونس" سابقاً، مبيناً أن محاولة فهم أسباب هذا الاستقطاب وموازين القوى تعيدنا إلى ما حصل في 2011، حين أفرز المشهد بروز حزب منظم، وهو "النهضة"، بنحو 39 في المائة، وظهرت قوى سياسية لا وزن كبيراً لها، فتكوّن التحالف بين أحزاب "المؤتمر من أجل الجمهورية" و"التكتل من أجل العمل" و"الحريات" وحركة "النهضة"، لكنه لم يحقق نتائج إيجابية وبرزت مخاوف على الهوية وقتها. وأوضح أن البحث عن خلق توازن، والمخاوف من هيمنة "النهضة"، دفع بعض القوى، التي قادها الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، لتشكيل حزب "نداء تونس"، وهي قوة غير مهيكلة وبلا خلفية فكرية، بل كانت قوة مضادة لـ"النهضة"، معتبراً أن ما نعيشه اليوم هو الأمر نفسه تقريباً، ويرى بعض التونسيين أن البديل الذي يمكن أن ينافس "النهضة" هو "الدستوري الحر".
ولاحظ بالعم أنه خلافاً لـ"النهضة" و"الدستوري الحر"، لا يمكن لبقية الأحزاب السياسية جمع الأنصار والاستعراض في الشارع كما قام به الحزبان. وأكد أن الاستقطاب الثنائي قد يستمر حتى الانتخابات المقبلة، وأن هناك حظوظا وافرة لذلك، على الرغم من أنه لا يمكن التكهن والجزم به في ظل وجود نسبة كبيرة لم تحسم موقفها بعد، أو إمكانية ظهور قوى جديدة منافسة، وهذا ليس سهلاً.
وعلى الرغم من أن نسبة 68 في المائة من المستجوَبين لم توضح نواياها في التصويت، وهي نسبة كبيرة جداً بإمكانها تغيير المعطيات جذرياً لصالح هذا الحزب، في الانتخابات التشريعية أو الرئاسية، إلا أن أغلب المؤشرات تؤكد أن المشهد السياسي يتكرر من دورة انتخابية إلى أخرى، إلا إذا تم تغيير القانون الانتخابي في اتجاه بروز أغلبية نيابية. ولكنه قد لا ينجح أيضاً في استبعاد منطق الاستقطاب الثنائي، الذي قد يعكس في العمق رغبة من الناخبين أنفسهم في تلخيص المشهد السياسي في قوتين كبيرتين يتم الاختيار بينهما.