البيان الذي صدر مساء الاثنين 1 مايو/ أيار، عن وزارة الخارجية الأميركية بخصوص لبنان كان لافتاً ومثار تساؤل، إذا لا لشيء، فعلى الأقل لأنه بضاعة نادرة. منذ زمن وملف أزمته مركون في زوايا النسيان، ولا يأتي المسؤولون على سيرته إلا في حالات عارضة، مثل إعلان عقوبات جديدة ضد جهات أو عناصر لبنانية باتهامات تبييض أموال أو حالات فساد وغيرها.
المرة الوحيدة التي رجع فيه هذا الموضوع إلى دائرة الضوء كانت في خريف العام الماضي عندما نزلت الإدارة الأميركية بثقلها لإنجاز اتفاقية رسم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل. وبعد توقيعها غاب الوضع اللبناني من جديد واقتصر ذكره بين الحين والآخر على إسداء النصيحة وتكرار الدعوة ذاتها بأنّ على اللبنانيين المسارعة في انتخاب رئيس وإطلاق ورشة الإصلاحات... إلى آخر هذه المعزوفة الأقرب إلى الوعظ والإرشاد.
لم يكن سراً في واشنطن أن لبنان مهمش في حسابات الإدارة منذ البداية. لطالما جرى التعامل مع أزمته كـ"ملحق" للملفات الكبيرة في المنطقة، كما تبيّن في موضوع الحدود البحرية.
لكن بيان الخارجية اليوم مختلف بلهجته ولافت بتوقيته. في ظاهره بدا كأنه يعكس شيئاً من الصحوة بشأن أزمة لبنان. لكن في مضمونه يؤشر على تحوّل من الموقف الفضفاض إلى موقف تأكيدي جازم. خصوصاً أن خطوات في هذا الاتجاه قد سبقته، رافقتها إشارات توحي بأن الإدارة تراجعت عن إسناد ملف انتخاب الرئيس اللبناني إلى الحليف الفرنسي، لتعود وتمسك بقراره، على ما يظهر.
الناطق الرسمي الجديد في الخارجية الأميركية ماثيو ميلر، قال إن البيان الذي صدر عن مكتبه وباسمه، يأتي بمناسبة مرور 6 أشهر على الفراغ الرئاسي في لبنان. التذكير بالاستحقاق في هذا الوقت (لماذا لم يصدر بمناسبة مرور 3 أشهر على الشغور الرئاسي مثلاً) وبصيغة تنضح بالتحذير، جاء كإطار لتمرير عدة نقاط بدت كمطالب أميركية وليس فقط كحاجة لبنانية. فالإدارة تدعو الآن، بل تريد "التحرك على وجه السرعة" لانتخاب رئيس جمهورية يتمتع بصفات "القيادة الملائمة لتجنيب لبنان المزيد من الكوارث"، بمعنى أن يكون الرئيس غير محسوب على فريق. ضمناً أن لا يكون مرشح "الممانعة".
يعزز هذا التفسير تشديد البيان على أن حل أزمة لبنان "يأتي من الداخل وليس من الخارج". وفي ذلك غمز من زاوية ما يتردد عن أن اختيار الرئيس اللبناني سيكون واحداً من إسقاطات الاتفاق السعودي الإيراني، الذي بدأت تتوالى تعبيراته السياسية الأولية من خلال زيارة وزير خارجية إيران حسين أمير عبد اللهيان الأسبوع الماضي للبنان، وكذلك زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي غداً الأربعاء لدمشق، الأمر الذي زاد من توجّس واشنطن، وبالتالي من افتراقها عن تمسك الرئيس الفرنسي ماكرون بالمرشح سليمان فرنجية المحسوب على الخندق الإيراني ــ السوري ــ حزب الله.
بدأت الإدارة تنتقل من موقف "التعامل مع أي رئيس يتوافق عليه اللبنانيون" إلى موقف اشتراط "الملاءمة". أي المواصفات المطلوبة. والعقوبات التي فرضتها وزارة المالية الأميركية في مطلع إبريل/نيسان الماضي على الأخوين ريمون وآدي رحمه المقربين من المرشح فرنجية، فُسِّرَت على أنها ترجمة لهذا الانتقال، برغم نفي معاون وزير المالية بريان ميلر لهذا الربط، مع أن حيثية نفيه كانت رخوة، في أقله لأن الفساد في لبنان مستشرٍ، وبما يستوجب فرض عقوبات على نطاق واسع ولا يقتصر على الأخوين رحمه.
وبذلك بدأ يتبلور الفارق بين الإدارة وخط ماكرون اللبناني، في وقت ازداد فيه التنافر الأميركي ــ الفرنسي، على إثر زيارة ماكرون للصين وما رافقها من مواقف فرنسية فارقة تجاه الصين وواشنطن.
على هذه الخلفية الإيرانية والفرنسية، جاء بيان الخارجية الذي ينطوي مقارنةً بسوابقه، على توجه جديد تجاه الوضع اللبناني، يقوم على معيار المواصفات، لا التوافق على الرئيس اللبناني. وهذا يتقاطع مع الموقف السعودي، حسب المتداول. لكن هل يبقى هذا التقاطع على حاله في ضوء الاتفاق السعودي ــ الإيراني كما في ضوء التوتر الأميركي ــ السعودي؟