بدأت معالم تداعيات نكبة مدينة درنة التي تسببت فيها عاصفة "دانيال" في الوضوح مع مرور الوقت، وتوجهت معها أصابع الاتهام إلى المسؤولين الحكوميين والقادة في ليبيا، وإدخالهم دائرة المسؤولية عن سقوط الآلاف من الضحايا، وسط تنامي شعور بالغضب حيال استمرار تأثير الانقسام السياسي في إدارة الأزمة والتعاطي معها، رغم مرور أسبوع على حدوث الكارثة.
وضربت العاصفة الأحد الماضي مناطق عدة في شرق البلاد، لكن أبرزها مدينة درنة التي لا تزال فرق الإنقاذ والطوارئ تنتشل جثث سكانها من تحت ركام المباني المتهدمة وعلى طول شاطئها. ولا يعرف حتى الآن عدد الوفيات الحقيقي على الرغم من أن وزير الصحة بحكومة مجلس النواب، عثمان عبد الجليل، أعلن في مؤتمر صحافي، مساء أمس الأحد، من داخل درنة عن ارتفاع عددهم إلى 3283 ضحية، مشيراً إلى أن الأرقام مرشحة للزيادة في ظل استمرار عمليات الانتشال والبحث.
وحول الأضرار في المباني والممتلكات الخاصة، قال المتحدث الرسمي باسم حكومة الوحدة الوطنية، محمد حمودة، في مؤتمر صحافي بطرابلس، مساء أمس الأحد، أن سيول العاصفة أحدثت أضراراً بالغة في 1500 مبنى بمدينة درنة، منها 891 مبنى تضررت بالكامل، و398 مبنى غمرها الوحل ودفنت تحت التراب.
ولم تعلق الحكومتان بأي بيان واضح حيال أسباب نكبة درنة واختفاء ربعها، على الرغم من السبب الواضح وهو السيول الجارفة التي نتجت عن انهيار سدي واديها، الذي يقسم المدينة إلى نصفين.
وشارك رئيس حكومة مجلس النواب، أسامة حماد، النائب العام، الصديق الصور، في مؤتمر صحافي مشترك، السبت الماضي داخل درنة، أثناء إعلان الأخير بدء فتح تحقيق شامل في أسباب النكبة وانهيار السد، إلا أنه لم يبدِ أي تعليق.
وفي الجانب الآخر، أرجع رئيس حكومة الوحدة الوطنية، عبد الحميد الدبيبة، السبب إلى "سوء التخطيط في السبعينيات والذي لم يعد كافياً اليوم، كما أن الإهمال ساهم أيضاً مع مرور الزمن"، وفقاً لقوله أثناء لقائه بعدد من مسؤولي إدارة السدود بحكومته الخميس الماضي، مضيفاً أن ما حدث أيضاً هو "إحدى نتائج الخلافات والحروب وضياع الأموال".
وفي الوقت الذي اكتفى فيه المجلس الرئاسي بمطالبة النائب العام بفتح تحقيق في "هذه الكارثة"، ومحاكمة كل من يشتبه في ارتكابه "أخطاء أو إهمالاً" أدى إلى انهيار السدين، تأخر تعاطي مجلس النواب مع الكارثة لعدة أيام. وفي اليوم الخامس للنكبة عقد رئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، جلسة وصفها بـ "الطارئة" في بنغازي، برفقة عدد من النواب لم يعلن عن عددهم، قبل أن يصدر قرارات بالموافقة على صرف مبالغ مالية للحكومة المنبثقة عن مجلس النواب، وإعداد "مقترح" لإنشاء صندوق "جهاز لإعادة تأهيل وإعمار المناطق المتضررة" من السيول.
من جانبه، وعلى الرغم من سرعة وجود نجله صدام، برفقة أحد كتائبه داخل سرت، قام قائد مليشيات شرق ليبيا، خليفة حفتر، الجمعة بزيارة للمدينة، مرّ أثناء دخوله إليها بصفين من مسلحي وسيارات مليشياته كانوا في استقباله، قبل أن يجري استطلاعاً جوياً على متن مروحية عسكرية.
حصد المكاسب
وينتقد الناشط السياسي أبوبكر الساحلي، طريقة تعامل القادة في البلاد مع الأزمة "بمنطق التنافس، ومحاولة حصد المكاسب، فهم اليوم وحتى إن لم تثبت صلتهم بإهمال البنى التحتية، ومنها سد درنة، فقد كشفوا عن حقيقة واضحة أن هدفهم الصراع للبقاء، أما المواطن فلا يعنيهم بأي شكل".
وأكد الساحلي، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن أعمال إسعاف المصابين وانتشال الجثث ونقل النازحين "قام بها المتطوعون منذ أول يوم ولا يزالون حتى الآن هم من يقومون بالجزء الأكبر، وحتى الدواء والغذاء والماء لا يزال يصل إلى اليوم على متن سيارات المواطنين ومن أموالهم الخاصة أو من دول هبت للمساعدة".
ويضيف الساحلي، واصفاً الأحداث في الأيام الأولى للكارثة كشاهد عيان: "وصلت سيارات المواطنين محمّلة بكل عون، لكنها وقفت على مشارف المدينة عاجزة عن دخولها، فتلك الحكومات لم تتمكن حتى من إعادة فتح الطرقات لفك عزلة درنة لثلاثة أيام متصلة، حتى وصلت فرق الإنقاذ الدولية يوم الأربعاء وأعادت تأهيل طريق ترابي قديم بواسطة الجرافات، لنقع من هول الصدمة إثر العثور على أحياء تحت الأنقاض، ولو كانت حكومات البلاد مهتمة بالإمكانيات التي تهم أرواح المواطنين لكانت الخسائر أقل بكثير".
وحول إعلان حكومة مجلس النواب وقيادة حفتر، قبل يوم من العاصفة، عن رفع "حالة الطوارئ القصوى لمواجهة المخاطر الجوية المرتقبة"، وتوجيه حفتر "باتخاذ الإجراءات الكفيلة بعمليات الإنقاذ والحماية في المناطق التي ستتعرض لهذه التقلبات المناخية المرتقبة"، يعلق الساحلي بالقول "لا ترى من تلك الاستعدادات شيئاً باستثناء إغراق درنة بالسلاح والمسلحين".
وأضاف: "برروا عجزهم فيما بعد بأنهم كانوا يعتقدون أن الاعصار سيضرب بنغازي وسرت، وتبين أنهم اعتمدوا على النشرات الجوية التلفزيونية ولم يتصلوا حتى بالمراصد الدولية لمعرفة حجم ومساحة العاصفة وتحديد مواقعها، وحتى الآن وبعد مرور سبعة أيام لم يظهر من تلك الاستعدادات شيء".
وعن الموقف في الجانب الآخر، يقول الساحلي "الحكومة في طرابلس لم يصدر عنها حتى مجرد تحذير للمواطنين في شرق البلاد وكأنهم يسكنون بلاداً غير ليبيا، بل تأخر معرفتها لما حدث في درنة إلى اليوم التالي، لتعلن تجهيز كل إمكانياتها، وإرسال فرقها التي كانت تسير بخجل وسط الآلاف من سيارات المواطنين التي كانت تقل كل شيء".
أثر الانقسام السياسي في تعميق الأزمة
من جانبه، يلفت الأكاديمي وأستاذ العلوم السياسية، خليفة الحداد، إلى أن الأمر لم يتوقف عند حد موقف الحكومتين، وقدرتهما على مواجهة الكارثة، بل يشير إلى أن ملامح أثر الانقسام السياسي في تعميق الأزمة بدأ في الظهور أكثر في تصريحات مسؤولي الحكومتين في المؤتمرات الصحافية اليومية للجانبين الخاصة بمتابعة تداعيات كارثة درنة.
وقال الحداد في حديث لـ"العربي الجديد"، إن "المؤتمر الصحافي اليومي لحكومة مجلس النواب لا يتحدث فيه المسؤولون إلا عن نجاح حكومتهم في دعم قطاع الصحة، الذي يتولاه وزير الصحة وهو الناطق أيضاً باسم الحكومة، دون أي حديث عن قطاع الكهرباء والاتصالات والإغاثات الدوائية والغذائية، لأنها خدمات قدمتها فرق الحكومة في طرابلس، ويقوم بشرحها يومياً الناطق باسم حكومة طرابلس".
وتابع: "هذا الانقسام هو من عرقل وصول الدعم الدولي، فمعظم العواصم لا تعرف مع من تتعامل، ومن يمكنه تأمين فرق الإنقاذ، وبالأمس فقط شاهدنا فشلاً فاضحاً حتى في تأمين الطريق للمساعدات الإنسانية، فقد توفي خمسة من فرق الإنقاذ اليونانية في حادث سير أثناء انتقالهم من بنغازي إلى درنة، وتبين لاحقاً أنهم كانوا على متن سيارة أجرة عادية هم ومعداتهم".
وفي وقت يعتبر فيه الحداد تصريحات الجانبين "تهرّباً من المسؤولية"، أكد أنه "لا يجب أن نكتفي بالنقد فقط، بل بالاقتراح أيضاً، ومن ذلك تشكيل الحكومتين لجنة حكومية مشتركة لتنسيق الجهود في انتشال المدن المنكوبة من نكبتها بشكل سريع، وتقليل الخسائر منذ البداية، وأن يضطلع مجلس النواب بدوره بدلاً من التهرب أيضاً بالإعلان عن مبالغ مالية ضخمة للحكومة التابعة له، وهو يعرف أن الليبيين لن يصدقوه، فالمصرف المركزي الذي بيده الأموال لا يتعامل إلا مع الحكومة في طرابلس".
وحول دور النائب العام وتحقيقاته التي يجريها في أسباب كارثة درنة، لا سيما انهيار سدي واديها، في التقليل من صراع الأطراف السياسية، قلل الحداد من أهمية نتائج التحقيق التي وصفها بـ"مجرد مسكنات".
وقال: "يجب ألا يعول على تحقيقات النائب العام، حتى وإن تعهد بالإفصاح عنها بشكل سريع، فمن واقع معطيات ووقائع سابقة فلن يصل إلى شيء يمكن أن يطاول القادة في الصف الأول، بل تحقيقاته ستطاول شخصيات من الدرجة الثانية والثالثة، وحدث هذا في السابق في قضايا لا تقل خطورة كقضية مقابر ترهونة، التي لم يطلب فيها حفتر وقادته للتحقيق حتى الآن، على الرغم من صلتهم التي لا تخفى بالجريمة، وقبل أسابيع ضحى الدبيبة بوزيرة خارجيته نجلاء المنقوش في قضية التطبيع مع إسرائيل".
ولفت إلى أن الصليب الأحمر حذر قبل يومين من مخاطر انفجار مخلفات الحرب التي جرفتها السيول إلى داخل الأحياء المنكوبة في درنة، متسائلاً، هل سيطاول التحقيق حفتر الذي اقتحم بقواته درنة وخاض فيها حرباً ضروساً لمدة شهر، كان محيط السدين أحد مسارحها بدبابته ومجنزراته التي يمكن أن تكون سبباً إضافياً في زيادة خلخلة أساسات وجدران السد، لافتاً في هذا السياق: "وأنا هنا أفترض ولا أؤكد شيئاً".
وفقاً لرأي الحداد فإن "الشبهات تثور حول كل شيء، معبراً عن اعتقاده بأن "سيطرة العسكر وتقليل أرقام الضحايا قد يكون على علاقة بالمخاوف من غضب شعبي واسع، بعد أن انكشف الجميع، خصوصاً أن الحشود الليبية من كل حدث وصوب في درنة وحولها قد تخلق توجساً لدى القادة الخائفين على مناطق سيطرتهم".
سببان لـ"أهمية" التحقيقات
لكن في المقابل، يؤكد المحامي بلقاسم القمودي، أهمية تحقيقات النائب العام، موضحاً أن "هرب أي شخصية على علاقة بالقضية يمكن سد فراغها بالإجراءات التي يكفلها القانون"، مشيراً إلى أن هذه التحقيقات مهمة لأمرين.
ويشرح القمودي في حديثه لـ"العربي الجديد" ذلك بالقول: "أولاً التحقيقات ستطاول الجميع، وحتى وإن لم تلامس بعضهم بشكل مباشر إلا أنها ستطالهم بشكل آخر، والأهم أنها ستكشف عن دستورية شرعية جميع الهياكل السياسية الحالية، وستساعد في الدفع بملف الانتخابات واستحقاق تنفيذه، في ظل تورط الشخصيات الحاكمة في الفساد المالي والإداري".
وأضاف القمودي: "السبب الثاني له امتداد سياسي خارجي، فبعد أن أصبحت كارثة درنة قضية رأي عام دولي، فلا أعتقد أن أي طرف خارجي سيستمر في دعم متورط في قضية إنسانية كهذه، وعليه أعتقد أن الكثير من الدول ستعاود حساباتها، وقد تضطر للحفاظ على مصالحها للتفاوض من أجل التقارب حول رؤية مشتركة، أقل فوائدها الضغط باتجاه إجراء انتخابات لتجديد الشرعية، وإفراز نخبة سياسية جديدة".