لا تزال الألغام والمخلّفات المتفجرة التي زرعها تنظيم "داعش"، أو تلك التي خلّفتها المعارك في المدن العراقية التي سيطر عليها التنظيم بين عامي 2014 و2017، تحصد أرواح المدنيين، على الرغم من الجهود العسكرية والأمنية المستمرة في رفعها. وشهدت المدن الشمالية والغربية خلال الفترة الماضية سقوط أعداد غير قليلة من القتلى والجرحى جرّاء انفجار الألغام والمقذوفات، فيما يُطالب أهالي تلك المدن بمزيدٍ من الجهود في سبيل رفع الألغام وتعويض المتضررين منها.
ومنذ شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي وحتى آخر حادث من هذا النوع وقع يوم الأحد الماضي، بالقرب من تكريت في محافظة صلاح الدين، قُتل 18 شخصاً، بينهم ضبّاط وعناصر أمن ومدنيون، غالبيتهم أطفال قرويون.
ويبدو أن الأطفال هم الأكثر عرضة لخطر الموت بانفجار العبوات المزروعة في الأراضي والساحات والأرياف، بحسب مصادر أمنية عراقية، فقد قتل 3 أطفال مطلع شهر فبراير/شباط الحالي في قرية العذية الواقعة على حدود منطقتي بلد والإسحاقي، في محافظة صلاح الدين، وتسبّب ذلك بفاجعة دفعت الأهالي إلى مطالبة الحكومة بإعطاء هذا الملف أولوية كبيرة.
وأكثر العبوات المنفجرة تعود إلى فترة احتلال "داعش" لمدن العراق خلال السنوات الماضية، لكن عناصر التنظيم المُتخفين في مخابئ متفرقة، عادوا خلال الفترة الماضية إلى استخدام تكتيك زرع العبوات كمرحلة جديدة لمواجهة قوات الأمن العراقية. ووجّه رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، في وقتٍ سابق، بتشكيل لجنة تحقيق بالحوادث المتكررة بشأن انفجار العبوات، معتبراً إياها "أساليب خبيثة"، ودعا الأجهزة الأمنية والمواطنين إلى "الحذر والانتباه".
الأطفال هم الأكثر عرضة لخطر الموت بانفجار العبوات المزروعة في الأراضي والساحات والأرياف
المتحدث باسم قيادة العمليات العسكرية المشتركة اللواء تحسين الخفاجي، أكد لـ"العربي الجديد"، أن "نشر العبوات من قبل داعش، سواء قبل التحرير أو بعده، تندرج ضمن الفكر الانتقامي لحصد أكبر عدد ممكن من أرواح أبناء القوات الأمنية والمدنيين الذين رفضوا الفكر الإرهابي".
وأضاف الخفاجي أنه "بحسب توجيهات رئيس الوزراء، فإن الفرق المتخصصة برفع الألغام، تكثف جهودها في سبيل إنهاء هذا الخطر". ولفت إلى أنه "ليس هناك عدد تقريبي لعدد العبوات والألغام التي خلّفها داعش، لكنها في تراجع مستمر مع تقدّم قواتنا في رفع أعداد كبيرة منها".
خطر العبوات الناسفة يرعب العراقيين
وتواصلت "العربي الجديد" مع عدد من أهالي المدن المحررة، منها في نينوى وصلاح الدين، وقالوا إن خطر العبوات الناسفة هو الأكثر رعباً بالنسبة إليهم، خصوصاً أن التنظيم عمد خلال فترة سيطرته على المدن، إلى نشرها في كل المدن والأرياف والطرق الرئيسية والفرعية، وهناك قلة في المعلومات عن أماكن زرعها في القرى والأرياف على أطراف المدن أو الرابطة بينها. ولفت هؤلاء إلى أن الأجهزة الأمنية والفرق المتخصصة برفع الألغام تجتهد في عملها، لكن هناك حاجة إلى مزيد من هذه الفرق، للانتشار في البساتين والقرى النائية.
من جهته، أشار عضو لجنة الأمن والدفاع في البرلمان العراقي، مهدي تقي، إلى أن "أعضاء اللجنة درسوا في وقت سابق من عمر هذه الدورة البرلمانية أكثر من تقرير بخصوص الألغام والعبوات والمخلفات القابلة للانفجار، ومحاولة تسريع ودعم جهود الفرق المتخصصة بذلك، من أجل منع أي حالات انفجار تطاول مدنيين".
وأكد تقي لـ"العربي الجديد"، أن "الأشهر الماضية شهدت أكثر من حالة انفجار أدت إلى مقتل مزارعين وأطفال ونساء في أكثر من مدينة محررة، وهذا يدعو بشكل جاد إلى إلزام القيادة العامة للقوات المسلحة بمتابعة هذا الملف الخطير".
ولفت تقي إلى أن "تنظيم داعش عمد خلال فترة احتلاله لبعض مناطق العراق، إلى نشر الألغام على أكبر نطاق ممكن، بما فيها الأرياف البعيدة عن تجوال قوات الأمن العراقية، وذلك لأجل استمرار إرهاب المواطنين، حتى بعد انهزامه وتحقيق انتصارات وهمية على حساب موت المدنيين". وأشار تقي إلى أن "غالبية العبوات التي انفجرت خلال الفترة الأخيرة، كانت مزروعة في مناطق بعيدة عن طرق مرور أرتال القوات الأمنية، وهذا يؤكد الفكر الانتقامي من المدنيين المتجذر في عناصر التنظيم الإرهابي".
عناصر التنظيم المُتخفون عادوا خلال الفترة الماضية لاستخدام تكتيك زرع العبوات كمرحلة جديدة لمواجهة القوات العراقية
أما عضو المجلس المحلي السابق في محافظة صلاح الدين، عساف الجبوري، فبيَّن أن "مدناً وبلدات عدة داخل المحافظة ما تزال بعض أطرافها تحتوي على ألغام لم يتم رفعها، وخصوصاً المناطق منزوعة السكّان التي تستولي عليها بعض الجماعات المسلحة المنضوية ضمن الحشد الشعبي، وفي بعض الأحيان يقع ضحية هذه الألغام والعبوات بعض المزارعين ومربي المواشي".
وأكد الجبوري لـ"العربي الجديد"، أن "معظم الطرق الرابطة بين مراكز المدن وتحديداً الفرعية منها، تحتوي على ألغام، ولا سيما الطريق ما بين قضاء بلد وقضاء سامراء، وهناك انفجارات مستمرة يقع ضحيتها المدنيون، لكن من دون تحرك حقيقي من قبل القوات الأمنية أو الجهات المتخصصة".
انتقام "داعش" من القرى المحرّرة
بدوره، أكد الخبير الأمني، الضابط المتقاعد في الجيش العراقي، عماد علو، أن "داعش تعامل مع المدن العراقية التي سيطر عليها بالملكية الخاصة، لذلك حين اشتدت الحرب عليه من القوات العراقية وطيران التحالف الدولي، أراد الانتقام من هذه المدن، وزرع أعداداً كبيرة جداً من الألغام في كل المدن والطرق والأرياف والبساتين والساحات العامة، وركز على مفاصل حيوية بالنسبة للأطفال ومنها المساحات الخاصة بألعابهم، لذلك فقد شهدنا خلال الفترة الماضية خسارة عدد من الأطفال بسبب العبوات".
وبيَّن علو، في اتصالٍ مع "العربي الجديد"، أن "التنظيم خلال فترة ما بعد دحره، بات يستغل الأخطاء والثغرات الأمنية في سبيل مواجهة المدنيين والقوات العسكرية بالعبوات، وقد لاحظنا خلال الأشهر الماضية زيادةً في الهجمات عبر العبوات". وأشار إلى أن "العراق بحاجة إلى الاستعانة بخبرات أجنبية لرفع الألغام، وضرورة تمكين الفرق المحلية التابعة للوزارات والجهات الأمنية، وتسهيل عمل المنظمات الدولية ومنها الصليب الأحمر بهذا الصدد".
ولا تزال فلول "داعش" تشكل تهديداً أمنياً في العراق، لا سيما في المحافظات المحررة (ديالى وكركوك والأنبار وصلاح الدين ونينوى)، إذ تنفذ هجمات متفرقة توقع أحياناً قتلى وجرحى من القوات الأمنية والمدنيين، فيما تنفذ القوات الأمنية خططاً متتابعة، تسعى من خلالها لتحجيم تحركات التنظيم وإحباط هجماته.