لا يكاد يمر يوم من دون أن تحصد الألغام التي زرعتها أطراف الصراع في سورية على مدى السنوات العشر الماضية أرواح مدنيين، وخاصة في البادية السورية، الذي تشير المعطيات والوقائع إلى أن جانباً كبيراً منها تحول إلى حقول ألغام، وأبرزها في ريفي حماة وحمص الشرقيين وريف دير الزور الجنوبي. ففي حادث يُعد الأعلى لجهة الضحايا، قتل وجرح 22 شخصاً في ريف مدينة سلمية شرقي حماة وسط سورية، أول من أمس الأحد، إثر انفجار لغمين بسيارتين، خلال توجههما لقطف "الكمأة" الذي تشتهر به البادية السورية، بهدف الاتجار به لارتفاع ثمنه.
ونقلت قناة "الإخبارية"، التابعة للنظام، عن مدير مستشفى سلمية الوطني ناصح عيسى قوله إن 14 جثة تعود لمدنيين وصلت إلى المستشفى، بالإضافة إلى ثلاث إصابات أخرى، عقب انفجار ألغام في منطقة وادي العذيب بريف سلمية الشرقي. كما انفجر لغم آخر، يُعتقد أنه من مخلفات تنظيم "داعش"، بسيارة أخرى بالقرب من المنطقة نفسها، ما أدى إلى مقتل خمسة أشخاص. ويأتي هذا الحادث بعد مقتل خمس فتيات، وجرح 11 شخصاً، في 27 فبراير/ شباط الماضي بانفجار لغم مضاد للآليات بسيارة تقل عمالاً لجمع "الكمأة" قرب منطقة رسم الأحمر بناحية السعن في ريف سلمية الشمالي الشرقي.
قتل وجرح 22 شخصاً في ريف سلمية يوم الأحد إثر انفجار لغمين
وأوضحت مصادر محلية، لـ"العربي الجديد"، أن المليشيات المحلية التابعة للنظام "هي المسؤولة عن زرع الألغام في محيط مدينة سلمية خلال الأعوام الماضية، في محاولة منها لمنع تنظيم داعش من الاقتراب من المدينة ومن مناطق أخرى في ريفي حمص وحماة الشرقيين". وبيّنت المصادر أن تنظيم داعش نفسه زرع ألغاماً في المنطقة لتفادي هجوم مفاجئ من هذه المليشيات أو من قوات النظام إلى نقاط تمركزه في البادية السورية". وأشارت إلى أنه "لا توجد خرائط توضح أماكن هذه الألغام لنزعها أو لتفاديها من قبل المدنيين الذين يتنقلون في المنطقة". وأضافت أن "الألغام جانب خفي من الكارثة في سورية، لا يجد اهتماماً إعلامياً، أو من قبل المنظمات الدولية المتخصصة". ولا يتوقف سقوط الضحايا جراء الألغام على ريفي حمص وحماة، حيث تُكثر حوادث انفجار مخلفات الحرب من الألغام في بادية دير الزور، وخاصة بمجموعات من مليشيات محلية وطائفية تسيطر على المنطقة. وأوضحت مصادر محلية أن عدداً من رعاة الغنم في البادية السورية فقدوا حياتهم نتيجة انفجار ألغام بهم أثناء الرعي.
ولا يقتصر سقوط الضحايا جراء الألغام على مناطق البادية السورية، حيث تكثر هذه الحوادث أيضاً في مناطق سيطرة فصائل المعارضة في الشمال السوري، حيث انفجر لغم، الأحد الماضي، في عفرين، ما أدى إلى إصابة طفلين بجروح. وقتل، خلال العام الماضي ومنذ مطلع الحالي، عشرات المدنيين في محافظة إدلب جراء انفجار ألغام أثناء قيام الفلاحين بجني ثمار محاصيلهم الزراعية.
وفي تقريرها الشهري، ذكرت الشبكة السورية لحقوق الإنسان أنه خلال فبراير/شباط الماضي قتل 16 مدنياً، بينهم 6 أطفال، بسبب انفجار الألغام في عدة محافظات سورية. وأشارت إلى أن حصيلة الضحايا الذين قتلوا بسبب الألغام منذ بداية العام الحالي بلغت 34 مدنياً، بينهم 22 طفلاً، قضوا في مناطق عدة، تسيطر عليها مختلف القوى. وبحسب الشبكة فإن هذه الأرقام من القتلى تعد "مؤشراً على عدم قيام أي من القوى المسيطرة على الأرض ببذل أية جهود تذكر في عملية إزالة الألغام، أو محاولة الكشف عن أماكنها وتسويرها وتحذير السكان المحليين منها".
كما رسمت الشبكة السورية لحقوق الإنسان صورة قاتمة عن الكوارث التي تسببها الألغام في العديد من المحافظات السورية. وأوضحت، في تقرير صدر في ديسمبر/كانون الأول الماضي، أن الألغام قتلت نحو 2600 مدني، بينهم 598 طفلاً، و267 سيدة، و8 من الكوادر الطبية، و6 من كوادر الدفاع المدني، و9 من الكوادر الإعلامية، عبر المئات من حوادث انفجار الألغام في مختلف المحافظات السورية منذ مارس/آذار 2011. وطبقاً للتقرير فإن أغلب ضحايا الألغام سقطوا في محافظتي حلب والرقة، إذ بلغت نسبة حصيلة الضحايا في المحافظتين قرابة 51 في المائة من مجمل ضحايا الألغام، أي أنَّ نصف الضحايا سقطوا في هاتين المحافظتين، تليهما محافظة دير الزور بنسبة تقارب الـ 16 في المائة، ثم درعا بنحو 9 في المائة، ثم حماة بنسبة 7 في المائة، ثم بقية المحافظات.
وتناول تقرير الشبكة الألغام المضادة للأفراد والمركبات، وهي مواد صممت لتوضع تحت الأرض أو فوقها، وتنفجر بسبب وجود اقتراب أو تماس شخص أو مركبة بها. وأشارت الشبكة في تقريرها إلى أن سورية بذلك باتت من أسوأ دول العالم في كمية الألغام المزروعة منذ العام 2011، رغم حظر القانون الدولي استخدامها. ووفقاً لتقرير الشبكة، وهي عضو في "الحملة الدولية لحظر الألغام الأرضية وتحالف الذخائر العنقودية"، فإن أطراف النزاع في سورية قد استخدمت الألغام على مدى قرابة 10 سنوات (باستثناء قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، والقوات الروسية) على الرغم من الحظر الدولي على استخدامها. وعزا التقرير ذلك إلى امتلاك النظام السوري عشرات آلاف الألغام، إضافة إلى سهولة تصنيعها وكلفتها المنخفضة، الأمر الذي مكَّن بقية أطراف النزاع من استخدامها على نحو واسع، دون اكتراث بالإعلان عن مواقعها أو إزالتها.
قتل 2600 مدني سوري بانفجار ألغام منذ مارس 2011
وقال مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان فضل عبد الغني، في حديث مع "العربي الجديد"، إن "على المجتمع الدولي بشكل عام، والدول المانحة بشكل خاص، مسؤولية كبيرة إزاء ملف الألغام في سورية". وطالب بدعم مشاريع "تعمل على إزالة مخلفات الحرب في سورية، وخاصة الألغام التي لم تنفجر". وشدد على أن على المجتمع الدولي "الضغط على جميع الأطراف للكشف عن خرائط مواقع زراعة هذه الألغام ".
وحذر تقرير صدر عن دائرة الأمم للأعمال المتعلقة بالألغام (أونماس)، في أكتوبر/تشرين الأول العام 2020، من أن تغير خطوط جبهات القتال الأمامية في جميع أنحاء سورية زاد من عملية تلوث مناطق المجتمعات بالذخائر المتفجرة. ووفقاً لمسودة كانت منشورة "عن الاحتياجات الإنسانية لعام 2020"، يعيش 11.5 مليون شخص في 2562 منطقة تم الإبلاغ عن تلوثها بالذخائر المتفجرة في العامين الماضيين، وأن هناك قلقاً بالغاً من أن العائدين معرضون لمخاطر كبيرة. وأشار التقرير إلى أنه وعلى الرغم من أنه استفاد، في النصف الأول من العام 2020، أكثر من 1.1 مليون شخص من دورات للتثقيف بشأن مخاطر الذخائر قامت بها دائرة الأمم المتحدة للأعمال المتعلقة بالألغام والشركاء في مجال المساعدة الإنسانية ومقدمو الخدمات العامة، وتدريب 186 شخصاً على التوعية من الذخائر المتفجرة، فإن التحدي لا يزال كبيراً، إذ لا يزال هناك معوقات بوجه النطاق العملي على الأرض لنزع الألغام. كما أن هناك صعوبة في جمع البيانات في العديد من المناطق بسبب القيود المفروضة على الوصول إلى المعلومات، والحد من القدرة على رسم خرائط المناطق الملوثة بالذخائر المتفجرة من أجل فهم كامل لنطاق التهديد.
وأشارت "أونماس"، في تقريرها، إلى أنها تحتاج إلى زيادة فرص وصول المنظمات الإنسانية المتعلقة بالألغام، بحيث يمكن معالجة جميع الركائز الأساسية للإجراءات الإنسانية المتعلقة بالألغام دون قيود ووفقاً للمبادئ الإنسانية وشواغل الحماية، وإعطاء الأولوية للاستجابة الإنسانية للإجراءات المتعلقة بالذخائر المتفجرة، بحسب أولويات المجتمعات المتضررة، وإجراء مسح شامل للمناطق الملوثة والمشتبه في خطورتها ووضع علامات عليها، سواء بالنسبة للمناطق الحضرية أو الريفية.
وكان الثلاثي الضامن لتفاهمات مسار أستانة اتفق في ختام الجولة الثامنة، التي عقدت أواخر العام 2017، على تشكيل لجان عمل لإزالة الألغام، إلا أن هذا الإجراء لم يتحقق، حيث فشل هذا المسار في التعاطي بإيجابية مع أغلب الملفات التي أخذ على عاتقه التعامل معها. وأوضح العقيد علي أيوب، وهو القائد العسكري لحركة "وطن" إحدى فصائل المعارضة في الشمال السوري، في حديث مع "العربي الجديد"، أن الألغام "هي من أخطر الأسلحة المصنفة ذات التأثير ما بعد انتهاء الأعمال القتالية"، موضحاً أن خطورتها، خاصة على المدنيين، تكمن في الزرع العشوائي أو إخفاء خرائط مواقع زراعتها. وبيّن أن عدة جهات زرعت الألغام خلال سنوات الصراع في سورية، مؤكداً أن النظام "هو أبرز هذه الجهات"، موضحاً أنه زرعها في كل المناطق السورية التي انسحب منها من درعا جنوباً مروراً بدمشق وحمص وحلب في الشمال. وأشار إلى أن قوات النظام "تضع الألغام أمام نقاط تمركزها اليوم على أطراف إدلب وريف حلب الشمالي"، وقد "أدت هذه الألغام إلى وفاة الكثير من الأبرياء، وخاصة رعاة الغنم والأطفال".
وأشار أيوب إلى أن "الألغام التي تفجر بين وقت وآخر على طول الشمال السوري في عفرين وإعزاز والباب وتل أبيض هي من مخلفات تنظيم داعش والأحزاب الانفصالية" في إشارة إلى "قوات سورية الديمقراطية" (قسد). وحول الطريقة المثلى للتعامل مع الألغام في سورية، قال أيوب: وعي المجتمع لخطورتها، ومن ثم تجهيز فرق متخصصة تكون ذات خبرات عالية لتفكيكها مع تأمين المستلزمات المطلوبة لذلك. ولفت إلى أن "الجيش الوطني"، التابع للمعارضة السورية ويسيطر على جانب من شمال سورية، "يعتمد على مجموعة من الضباط المنشقين الاختصاصيين، وبدعم تركي، للتخلص من هذه الألغام".