عادة الانتخابات في أوروبا تثير الاهتمام في الولايات المتحدة الأميركية الحليفة، لكن ولا مرّة كان لها وقع انتخابات إيطاليا التي جرت أول من أمس الأحد. نتائجها شغلت الساحة السياسية الأميركية كما لم يكن من قبل. تصنيفها بأنها تحمل "بذور الفاشية" جدّياً، لأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، أعطى شحنة للمخاوف المحلية من احتمال انزلاق الديمقراطية الأميركية المتآكلة إلى تفريخ مثل هذه "البذور" التي تتوالى التحذيرات من خطرها، خاصة بعد اجتياح الكونغرس في 6 يناير/ كانون الثاني 2021.
أقصى اليمين، وبالتحديد المحسوب على خندق الرئيس السابق دونالد ترامب، رحب بفوز زعيمة اليمين المتطرف جورجيا ميلوني، في الانتخابات التشريعية في إيطاليا، باعتباره نصراً لتوجهاته وقناعاته العميقة (مثل السناتور الجمهوري تيد كروز، والنائبة الجمهورية مارجوري تايلور غرين). فهو في خطابه يلتقي في القناعات والسياسات مع ميلوني، ولا يقلّ عنها تشدداً في الداخل ومع الخارج.
في المقابل، رأت فيها القوى الليبرالية، ومن ضمنها إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، ما يوازي الإنذار المبكر، أو على الأقل المربك. صحيح أن النزعات القومية والأصولية الأوروبية ليست جديدة، وكانت تطلع وتنزل منذ الحرب الثانية، لكنها بقيت عاجزة عن الوصول إلى الحكم، خصوصاً بعد قيام الاتحاد الأوروبي واعتماد اليورو عملةً موحدة.
بيد أن الصيغ الاتحادية تراكمت نواقصها، بما غذّى النزعات الانفصالية والشعبوية المنغلقة التي أطلت برأسها في أكثر من ساحة أوروبية، مثل فرنسا وهنغاريا وبريطانيا، والآن ايطاليا. وقد ربطتها قواسم مشتركة مع اليمين الأميركي، منها رفض الآخر المختلف، والدفع نحو سد باب الهجرة، فضلاً عن التلاقي في السياسات الداخلية المتعلقة بتقليص دور الدولة وخفض الضرائب، وتخفيف الضوابط التنظيمية في قطاعات المال والأعمال وغيرها.
يذكر أن بعض رموز هذه القوى الأوروبية، مثل فيكتور أوربان الهنغاري، وميلوني الإيطالية، كانت من ضيوف "مؤتمر لجنة العمل السياسي للمحافظين"، الذي انعقد في أغسطس/آب الأخير في مدينة دالاس بولاية تكساس، وألقى كل من أوربان وميلوني خطاب تضامن مع اليمين الأميركي وطروحاته وتوجهاته، وفي الوقت ذاته حظي بالتقدير العالي من جانب المؤتمر.
الإدارة الأميركية اتسمت ردودها بترحيب بارد تفرضه الأصول ويقتضيه تاريخ علاقات طويلة "مع الحليف والصديق والشريك الإيطالي، التي تمتد إلى 160 سنة"، كما قال نيد برايس، المتحدث في الخارجية، أمس الاثنين.
وأضاف أن الإدارة تتطلع إلى العمل مع "أي حكومة تنبثق من الانتخابات لخدمة مصالحنا وقضايانا المشتركة".
وكان من اللافت أن يخصّ ماريو دراغي بالشكر على "قيادته ورؤيته" خلال توليه رئاسة الحكومة المستقيلة في إيطاليا، مشيراً في الوقت ذاته إلى أنّ "الحكومة الجديدة لم تتشكل بعد، ومن المبكر الحديث عنها"، وفي ذلك إشارة إلى ما تردد عن صعوبة جمع تحالف يضمن تسلمها السلطة.
وفي بعض التوقعات أن مثل هذا التحالف سيكون هشاً على الأرجح، بحيث "لا تصمد الحكومة ربما إلى أكثر من عدة أشهر".
عدم ارتياح الإدارة الأميركية مردّه بالدرجة الأولى إلى خشيتها من إقدام الحكومة الإيطالية المرتقبة على خلخلة الموقف الأوروبي تجاه موسكو في حرب أوكرانيا. ميلوني سبق وكشفت عن انحيازها إلى جانب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وبالتالي إن أي ترجمة لمثل هذا التعاطف قد تؤدي إلى فتح باب التصدع في الموقف الأوروبي.
بيد أنه، حسب بعض القراءات، قد لا تقوى الحكومة الإيطالية القادمة على مثل هذا الخروج عن وحدة الصف، لأن إيطاليا تمر حالياً بظروف صعبة، وتحتاج إلى دعم أوروبي، وانفرادها قد يضاعف من صعوباتها.
واشنطن كانت تتوقع مجيء اليمين في انتخابات إيطاليا، مع ذلك كان إعلان فوزه بمثابة هزة، وقد استحضر سوابق غير سارة. سنة 1922، وفي مثل هذه الأيام، دخل بينيتو موسوليني إلى روما في مسيرة لحزبه الفاشي الفائز الذي حمله إلى سدة الحكم حتى نهاية الحرب الثانية، حيث انتهى مشنوقاً.
بعد مئة سنة تتولى جورجيا ميلوني (المعجبة بموسوليني حسب مقابلة لها مع صحيفة فرنسية) رئاسة الحكومة التي وصلت إليها بخطاب جذوره فاشية، فهل يتكرر السيناريو؟ احتمال تفيد الردود بأنه ممكن في ضوء المناخات الأوروبية، لكنه مستبعد في ضوء المعطيات القائمة. الأهم بالنسبة إلى المتخوفين من الأميركيين، أن لا تقوى نبتة الفاشية على البزوغ، خوفاً من عدواها.