أوروبا والاستقلالية عن واشنطن... خشية من انقسام متفاقم

16 ابريل 2023
ماكرون في الإليزيه، الجمعة (لويس جولي/فرانس برس)
+ الخط -

يواجه الاتحاد الأوروبي منذ سنوات تحديات كثيرة في العلاقة مع الحليف الاستراتيجي الأميركي. فهذه العلاقة مرّت بمطبات كثيرة في السنوات العشر الأخيرة.

وتحتدم النقاشات عن العلاقة المثلى بواشنطن في سياق "تنافس" عالمي، مع الصعود الصيني على الساحة الدولية. وشكّلت الحرب في أوكرانيا، بعد الغزو الروسي في 24 فبراير/شباط 2022، أحد ركائز تراجع نبرة التوتر في علاقة الحليفين الغربيين والتي شهدها عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.

وعلى الرغم من ذلك جاءت تصريحات الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بعد زيارته إلى الصين، عن ضرورة أن تستيقظ أوروبا وتناقش تبني سياسات أكثر استقلالية وأقل تبعية لأميركا، لتطرح أسئلة حول العواقب وتأثيراتها على السياسات الأمنية للاتحاد الأوروبي، إلى جانب مصالحها الاقتصادية المتعمقة مع بكين.

ومن الواضح أن أفكار ماكرون ليست جديدة "بل هي تكرار لمواقف سابقة صدرت عنه وعن برلين في بعض الأحيان"، كما يذكر الباحث والخبير في علاقات أوروبا بالصين في كوبنهاغن، أندرياس بويا فورسبي.

ويشدد فورسبي في حديث لـ"العربي الجديد" على أن تلك التصريحات لا تلقى شعبية في الظروف الحالية التي تمر بها القارة. أما مصدر القلق الذي تشكله "النزعة الماكرونية"، الديغولية القديمة، المُعبّر عنها مجدداً، فمصدرها "استغلال صيني لها في سياق محاولات فرض تباعد بين القوى الغربية"، برأيه.


أندرياس بويا فورسبي: فكرة نظام عالمي متعدد الأقطاب غير واقعية، بل مجرد هراء

ليس سراً أنه ثمة خشية لدى منتقدي تصريحات ماكرون من أن يؤدي السجال، إذا ما تعاظم في الأسابيع المقبلة، إلى مزيد من انقسام داخل أوروبا، وتشكيك بمكانتها في ما يتعلق بالعلاقة الصينية ـ الأميركية. فتسويق ما يسمى "سيادة استراتيجية" لأوروبا في علاقتها بالقوتين، خصوصاً بما يتعلق بسياسات الولايات المتحدة في آسيا عموماً، وتايوان على وجه التحديد، لم يرق هذه المرة حتى لبرلين، التي كانت قبل الغزو الروسي لأوكرانيا تعبّر ضمناً وظاهراً عن الرغبة الفرنسية.

وإلى جانب برلين، تأتي مواقف أوروبية في شرق القارة، وهي الأكثر خشية من مشاريع روسيا ومحاولات فرض نظام عالمي جديد، كما الحال مع دول البلطيق ودول إسكندنافية.

صحيح أن ماكرون أطلق في 2019 عبارته الشهيرة عن أن حلف شمال الأطلسي "ميت دماغياً"، إلا أن الظروف مختلفة اليوم عن فترة السجال مع ترامب، والذي شمل برلين في عهدة المستشارة السابقة أنجيلا ميركل، وعواصم أوروبية أخرى.

استقلالية أوروبا عن واشنطن

في الظاهر استقبلت عواصم أوروبية ببرودة طروحات ماكرون الأخيرة عن استقلالية القارة، بينما عملياً يرى البعض أن العلاقة التجارية المتينة مع الصين، وتزايدها خصوصاً مع ألمانيا، تزعج أطرافاً في أوروبا الشرقية ودول البلطيق وواشنطن، المتوجسة من العلاقة الصينية ـ الروسية.

ويعتبر فورسبي أن عمق علاقة القارة بالصين هو ما تستغله بكين لخلق استقطاب لمصلحتها بدلاً من واشنطن. وعلى سبيل المثال، فإن هولندا باتت اليوم أكبر مستورد للبضائع من الصين، وهو ما يفسر زيارة ماكرون إلى أمستردام بعد بدء السجال الذي تسببت به تصريحاته.

ويشير فورسبي إلى أن "فرنسا تفكر بطريقة وكأنها قوة عظمى، وهو جوهر تفكير ماكرون، فيما برلين تفكر بنفس الطريقة، ولكنها متحفظة رغم ذلك عن الإفصاح بنفس طريقة باريس".

وقدمت أخيراً بعض القوى الاستقلالية النزعة في القارة الأوروبية نقاشاً خجولاً حول رغبة الصين بتحويل أوروبا إلى قطب، في سياق علاقات دولية ثلاثية القطبية (واشنطن ـ بكين ـ أوروبا).

وبرأي فورسبي، إن الرغبة الصينية تبدو "مجرد ثرثرة من دون إمكانية لترجمتها عملياً". ويشير إلى أن فكرة نظام عالمي "متعدد الأقطاب" غير واقعية "بل مجرد هراء، فلا يمكن للدول أن تطلب نظاماً معيناً، وتطرح بدائل". وهو يلفت بذلك إلى "الرغبة الصينية في ظل غياب أقطاب حقيقية، فروسيا ليست قطباً عالمياً، بل قوة إقليمية كبيرة، وبالنسبة للغرب فهو ليس في وارد تلبية تلك الرغبة".

ويعتبر فورسبي أن النظرة بواقعية "ستكشف أن الفجوة ما تزال كبيرة عسكرياً وتقنياً واقتصادياً، إلى جانب المكانة الدولية، لمصلحة الولايات المتحدة على حساب الصين".

ويرى كبير المحللين في العلاقة الأوروبية الصينية، أنديرس أوفرفاد، في حديثٍ مع "العربي الجديد"، أنه "خلال 20 عاماً انتقلت أوروبا من التجارة مع الصين من مستوى علاقتها بروسيا إلى مستوى تجاري شبيه بعلاقتها بواشنطن". ما يحاول ماكرون وغيره في أوروبا فعله "ليس بحالة مستجدة، فقد تحدثوا عنها علانية في السنوات الماضية، لكن ما يثير النقاش الآن هو التوقيت الخطأ لمثل هذه الرغبات"، كما يؤكد لـ"العربي الجديد" كبير الباحثين في المركز الدنماركي للسياسات الدولية، فليمنغ سبيدسبويل.

ويعتبر أن هذه المحاولة لجعل أوروبا بعيدة عن واشنطن: "يمكن أن تتسبب بمشكلة في العلاقات الأميركية ـ الأوروبية، إذ من المحتمل أن تستغلها قوى أميركية تريد بالفعل الانسحاب من أوروبا".

ويعترف الأوروبيون، من إسكندنافيا شمالاً إلى جنوب القارة، أن سياسة "إجبار الصين" لا تنفع، بل تستطيع القارة استخدام نفوذها: "للمناشدة ودفعها نحو مواقف غير متشددة، وهو ما تعترف به رئيسة المفوضية الأوروبية (أورسولا فون دير لاين)"، كما يذكر سبيدسبويل.


فليمنغ سبيدسبويل: من المحتمل أن تستغل قوى أميركية تصريحات ماكرون للانسحاب من أوروبا

غير بعيد عن ذلك الموقف، يذكر الباحث والخبير في العلاقة عبر الأطلسي في المركز الدنماركي للسياسات الدولية، ياكوب لينيت ـ شميت، لـ"العربي الجديد"، أنه يمكن تخيل ما ستكون عليه الأمور لو أن ترامب في البيت الأبيض.

ويشير إلى أنه على الرغم من أن تصريحات ماكرون والسجال المندلع الآن عن علاقة أوروبا ببكين وواشنطن ليست جديدة، فإن "تأثير ذلك على علاقة حليفي ضفتي الأطلسي ربما سينعكس في استغلال بعض أقطاب الحزب الجمهوري (المؤيدين لترامب) لفرض سياسة متشددة مع أوروبا".

ويلفت لينيت ـ شميت إلى أنّ التصريحات الأخيرة ليست في مصلحة الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن: "على الرغم من أنه من المستبعد في ظل الظروف الجيوسياسية الجديدة بعد الغزو الروسي لأوكرانيا أن تشكل فارقاً في جهود الحلف المتواصلة لدعم أوكرانيا في مواجهة روسيا".

وفي كل الأحوال تبدو الخشية أكثر من أن تتحول الأصوات الداعية إلى نأي أوروبا بنفسها عن الاستقطابات الدولية إلى سياسة واستراتيجيات تُطبّق، سواء تبنتها فرنسا أو غيرها معها، كما يقول لينيت ـ شميت، الذي يشدد على أن القارة "حاولت خفض السجال وعدم تضخيمه أو وضعه في سياق أكبر مما هو عليه". 

عملياً يبدو أن أوروبا، بما فيها بريطانيا من خارج الاتحاد الأوروبي، تعيش واقعاً في ظل حقائق الانقسام بشأن السياسات الخارجية والأمنية ـ الدفاعية. وكشفت الحرب في أوكرانيا هشاشة دول الجوار الأوروبي لروسيا، خصوصاً شرق القارة ودول البلطيق الصغيرة، ومعها دول إسكندنافية، من الخطوة الروسية التالية بعد أوكرانيا، ما جعلها أكثر تشدداً ونقداً لسياسات التراخي، تحديداً من قبل باريس وبرلين التي اعتبرتها "مقوضة لوحدة الموقف الأوروبي". بعض الدول الأوروبية الأخرى تظهر ميلاً لانتهاج سياسة وسطية تحافظ على مصالحها التجارية المتعاظمة مع بكين.

العلاقة الصلبة

من الواضح أن واشنطن بحاجة لأوروبا مثلما هي حاجة الأخيرة لها. فعلى مستوى العلاقة بالصين، وفي قضية تايوان، تملك أوروبا وسائل ضغط اقتصادية هائلة على بكين، لكن خشية القوى التي تريد الحفاظ على صلابة الموقف والعلاقة مع الحليف الأميركي تزداد بازدياد دخول الصين إلى البنى التحتية الحيوية في أوروبا، كالموانئ الكبيرة، وعمق اعتماد بعض دول القارة اقتصادياً على التجارة مع الصين، مذكرين باعتماد القارة سابقاً على الطاقة الروسية، قبل تجميدها والتحول عنها بسبب المقاطعة.

وفي هذا الاتجاه فإن قوة أوروبا العسكرية أقل بكثير من قوة واشنطن وبكين، لناحية افتقارها إلى قواعد بحرية خارجية، وهي بالتالي لا تستطيع الخروج من علاقة استراتيجية وثيقة بواشنطن، بحسب ما يقول كبير باحثي معهد التفكير الأوروبي، أولريخ فرانك.


أولريخ فرانك: ماكرون لا يريد مساواة بين واشنطن وبكين بل أوروبا أكثر استقلالية

ويرى فرانك في حديثٍ مع "العربي الجديد" أن التفكير الفرنسي قائم على تاريخ من الخوف من التحول إلى تبعية لأميركا، وذلك "لا يعني أن ماكرون يريد فعلاً المساواة بين واشنطن وبكين، بل نادى بأوروبا أكثر استقلالية تتماشى غالباً مع الولايات المتحدة من دون أن تتوافق تلقائياً معها".

وعلى ضوء المتغيرات الضخمة الحاصلة في العلاقة بين ضفتي الأطلسي، في مواجهة روسيا، وبجهود أميركية بارزة تحت مظلة الأطلسي والعلاقات الثنائية مع القارة، برز موقف ألماني غير مؤيد لتصريحات ماكرون الأخيرة. فوزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك زارت أيضاً الصين، لاستكمال ما بدأته زيارة المستشار أولاف شولتز العام الماضي وبشكل محدد في الاستثمارات العلاقات التجارية.

وبرأي فرانك فإن بيربوك: "لم تتراجع عن خط حزب الخضر المتشدد حيال سياسات بكين، ولعل استغناء ألمانيا السريع عن الطاقة الروسية فيه تذكير للصين بأنها إذا غزت تايوان فستكون العواقب ضخمة، خصوصاً مع تنامي تجارة البلدين".

تقاطر الأوروبيين نحو بكين، ليس فقط لأسباب تتعلق بما يشاع عن مبادرة صينية للسلام في أوكرانيا، بل لخشية من مستقبل موقع القارة في حال نشوب نزاع على الأرض في القضية التايوانية، وبعضهم يدرك أن الخلافات في بروكسل قد تضعف موقف أوروبا، التي تدفعها مثل تصريحات ماكرون إلى الظهور في "طريق ثالث".

وهو ما يعني "أن يساوي الاتحاد الأوروبي بين بكين وواشنطن، كما لو أننا أمام قوتين عظيمين على نفس المستوى والقيمة"، وفقاً لرأي الخبير في السياسات الدفاعية والألمانية في المؤسسة الألمانية للسياسة الخارجية، بنجامين تاليس.

ببساطة، فإن التصريحات الأوروبية المكتومة والعلنية من تصريحات ماكرون تختزل مخاوف القارة من انقسام مواقفها وتراجع مكانتها، وهي سارعت في أغلبها، سواء على المستوى الرسمي أو عبر محللين في مراكز بحثية، إلى اعتبار تصريحات ماكرون أنها "لا تعبّر عن الموقف الأوروبي".