بينما امتنع النظام المصري عن اتخاذ أي إجراءات حكومية للحد من التجمعات البشرية، ووقف الأنشطة التي تُعرّض حياة المواطنين للخطر في ظل الموجة الثانية من جائحة كورونا، على الرغم من زيادة عدد المصابين، وعدم قدرة النظام الصحي على كشف كل الحالات يوماً بيوم، استغلت وزارة الداخلية مستجدات الجائحة لتشديد القيود المشددة من الأساس على الزيارات في السجون. وفرضت الداخلية المزيد من الاشتراطات للسماح بزيارة ذوي السجناء، وفق الآلية الجديدة المتعسفة المعمول بها منذ أغسطس/آب الماضي، والتي كانت من العوامل التي أدت إلى اضطرابات عنيفة داخل السجون في الشهور الثلاثة الماضية.
وكانت وزارة الداخلية قد أعلنت في ذلك الشهر استئناف الزيارات للسجناء، والسماح لذويهم بالحضور إلى السجون لأول مرة منذ بدء اتخاذ الإجراءات الاحترازية لمنع انتشار كورونا منتصف مارس/آذار الماضي. وتقوم الآلية التي وضعتها الداخلية لإجراء الزيارات في الأساس على التسجيل المسبق للراغبين في الزيارة، مع تحديد زائر واحد فقط في كل مرة، ومنع إدخال المأكولات والمشروبات حتى ما كان مصرحاً به من قبل. وسمح هذا الأمر لإدارات السجون، وبإيعاز من ممثلي الأمن الوطني فيها، بالتمادي في منع الزيارات بالنسبة لمعظم المعتقلين في القضايا ذات الطابع السياسي، والمتهمين بالانضمام لتنظيمات وجماعات ومعارضة نظام الحكم، استمراراً للتمييز السلبي ضد الفئة ذاتها منذ بدء الجائحة. وكان المعتقلون في تلك القضايا هم الأقل استفادة من قرارات العفو المتتالية التي صدرت هذا العام، والتي شملت أكثر من 13 ألف سجين، غالبيتهم الكاسحة من المحكومين في قضايا جنائية عادية.
ارتفعت أسعار السلع الغذائية والكماليات المسموح ببيعها داخل مقاصف جميع السجون
وأدت سياسة السجون في إدارة آلية الزيارات الجديدة إلى انتشار حالة من التوتر والغضب والمشادات بين السجناء والإدارات، وتفاقم سوء الحالة النفسية لآلاف السجناء، الذين تم منع الزيارات عنهم طوال هذه المدة، وما زالوا محرومين بسبب طبيعة القضايا الخاصة بهم. فضلاً عن أنه من الطبيعي زيادة عدد المرضى والمتوفين خلال ذروة فصل الصيف من كل عام نتيجة حرارة الجو الخانقة، وظروف الطقس السيئة، وحرمان المعتقلين في أماكن عديدة من التهوية الصحية، ليشهد شهرا أغسطس/آب وسبتمبر/أيلول سلسلة من وقائع الوفاة، سجلت مقتل أربعة من السجناء وأربعة من عناصر الداخلية في سجن العقرب شديد الحراسة في مجمع سجون طره في القاهرة في 23 سبتمبر الماضي.
وقالت مصادر أمنية وحقوقية، لـ"العربي الجديد"، إن بعض السجون المركزية، كالوادي الجديد، وأسيوط، وبرج العرب، وجمصة، منعت الزيارات تماماً ابتداء من 21 الشهر الحالي، بحجة اتخاذ إجراءات احترازية للوقاية من كورونا. أما باقي السجون فقد عملت على تخفيض عدد الزيارات، القليل أساساً، بنسبة خمسين بالمائة، للغرض نفسه. وأضافت المصادر أن إدارات السجون، بإيعاز من الأمن الوطني أيضاً، قررت وقف الزيارات لجميع المعتقلين السياسيين في كل السجون، سواء من المحبوسين احتياطياً أو المحكومين. كما تم إخطار المحامين بمنع التواصل المباشر معهم، قبل العرض على المحاكم، وهو ما أدى إلى العديد من المشاكل في قاعات الجلسات، التي لا تسمح ظروفها في العادة بلقاءات مطولة بين المتهمين والمحامين.
وذكرت المصادر أن هذه الإجراءات تزامنت مع ارتفاع ملحوظ، ابتداء من الشهر الماضي، في أسعار السلع الغذائية والكماليات المسموح ببيعها داخل مقاصف جميع السجون "الكانتين"، بما أصبح يثقل كاهل ذوي المحبوسين والمحكومين بمزيد من التكاليف. يشار إلى أن المبالغ المالية لا تسلم في ظل تدابير الزيارات الجديدة بشكل مباشر للمحبوس أو الجهة المعنية، ولكنها تترك لدى إدارات السجون بأسماء المحبوسين، لا سيما السياسيين منهم، ولا يُعرف مصيرها. وأوضحت المصادر أن أثر هذه الإجراءات يزداد خطورة على حياة السجناء ونفسيتهم في الفترة الحالية تحديداً، مع دخول فصل الشتاء والبرد القارس، الذي تتسم به معظم السجون المصرية في هذه الفترة من العام، والذي يستدعي في العادة تزويد المحبوسين بالأغطية والملابس الثقيلة بواسطة ذويهم. إلا أن ضعف التواصل وتعقيد إجراءات تسليم الحاجيات حالا دون ذلك.
لم تبد السلطات أي استجابة للضغوط والمناشدات الدولية لإنهاء أزمة نشطاء المبادرة
وتمتد هذه الأزمة إلى مجمع سجون طره، الذي أودع فيه أخيراً النشطاء الثلاثة المحبوسون من المبادرة المصرية للحقوق الشخصية جاسر عبدالرازق وكريم عنارة ومحمد بشير، في ليمان طره، والممنوعون حالياً من لقاء ذويهم وفريق دفاعهم، ولا تتوفر سوى معلومات شحيحة عنهم، في ظل توقعات بشأن سوء معاملتهم إنسانياً وصحياً، على خلفية الحالة التي ظهر عليها جاسر، نجل السياسي اليساري المرموق الراحل حسين عبدالرازق والكاتبة اليسارية والعضوة بمجلس الشيوخ حالياً فريدة النقاش. وهو الوحيد منهم الذي ظهر بعد الاعتقال، خلال جلسة استكمال التحقيق معه يوم الإثنين الماضي، وأخبر محاميه بأنه محروم من استخدام أمواله المودعة لدى إدارة السجن، وتمت حلاقة شعره بالكامل، وحُرم من إدخال أغطية وبطاطين لوقايته من البرد.
ولم تبد السلطات المصرية حتى الآن أي استجابة للضغوط والمناشدات الدولية العديدة التي صدرت من العواصم الرئيسية لإنهاء أزمة نشطاء المبادرة بالإفراج عنهم. وكان آخرها توجيه نحو 30 من أعضاء مجلسي النواب والشيوخ الأميركيين التابعين للحزب الديمقراطي خطاباً إلى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، يدعوه بلهجة صارمة لضرورة حل الأزمة، ووقف الحملة على النشطاء الحقوقيين والإعلاميين المعارضين بصفة عامة، وتحرير المواطنين من أصل أميركي. كما دعت للسماح بسفر مؤسس المبادرة حسام بهجت ورفع الحظر عن أمواله، ووقف الإجراءات التي يتعرض لها على ذمة قضية التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني منذ عام 2016.
وكان المتحدث الرسمي باسم الأمين العام للأمم المتحدة ستيفان دوجاريك قد عبّر، لـ"العربي الجديد"، عن قلق الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، من الاعتقالات في مصر، والمعاملة التي يتلقاها المدافعون عن حقوق الإنسان في السجون المصرية. وقال دوغاريك "نشعر بقلق شديد حول تقارير الاعتقال، ومعاملة المدافعين عن حقوق الإنسان، بمن فيهم الأعضاء الثلاثة في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية. وألفت انتباهكم كذلك للبيان الذي أصدرته المفوضة السامية لحقوق الإنسان حول الموضوع والذي يدعمه الأمين العام للأمم المتحدة". وأضاف: "الأمين العام للأمم المتحدة كان قد صرح بأنه يجب ألا يكون هناك أي سجناء رأي في القرن الحالي. يجب ألا يتم اعتقال أحد بسبب آرائهم السياسية". ورداً على سؤال حول الرسالة التي يوجهها للسيسي في هذا السياق وما إذا كان يطالب بإطلاق سراح المعتقلين، قال دوغاريك إن "رسالتنا واضحة، وكما قلت يجب ألا يتم اعتقال الناس لأنهم عبّروا عن أنفسهم. ونشعر بقلق شديد إزاء هذه الاعتقالات، وحول التقارير المتعلقة بظروف اعتقالهم ومعاملتهم. نلاحظ، في عدد من الدول، أن هناك انحساراً متزايداً للحيز السياسي والمدني وهذا ما نراه. يجب ألا يكون هؤلاء في السجون".