تعبيرات الضيق الأميركي من سياسات اسرائيل ليست جديدة. كانت تتردد من زمان لكن بالهمس. والعلني منها كان نادراً ،وأحيانا دفع أصحابه ثمن كسر هذا الممنوع، مثل النائب الديمقراطي بول فيندلي، الذي خسر مقعده في الثمانينيات، والسياسي والكاتب باتريك بيوكانن الذي جرت محاربته من غير أن يتزحزح عن موقفه.
في السنوات القليلة الماضية، ارتفعت نبرة الصوت، حيث لم يعد بقدرة الدعاية السائدة واللوبي الإسرائيلي إسكات الاعتراضات على سياسات تل أبيب واحتلالها. خاصة في الكونغرس وبالتحديد في مجلس النواب، الذي دخله ما يسمى بمجموعة "اليسار" الديمقراطي، التي فرضت الموضوع في التداول ولو من غير تأثير على أجواء الكونغرس أو على سياسة الإدارة المعروفة. لكنها ساهمت في تحريك الملف وفي تجاوز المحظور.
وامتد هذا الخروج عن المألوف إلى عدد من الجامعات التي أبدت هيئاتها الطلابية احتضانها لسياسة مقاطعة البضائع الإسرائيلية المصنّعة في المستوطنات.
في الشهرين الماضيين إبان الأزمة الإسرائيلية، قفز هذا الخطاب إلى مراتب متقدمة في الإدانة والدعوة إلى المحاسبة. الحديث عن "خطورة" الإصلاحات القضائية المزعومة والفاشية القادمة في إسرائيل وعن موت "الديمقراطية" فيها، كان وجبة شبه يومية في المداولات والتصريحات الرسمية.
إصرار نتنياهو على المضي في التوجه الملغوم لحكومته، وبما بدا أقرب إلى التحدّي للبيت الأبيض، أثار الدعوات "لإعادة النظر" في العلاقات مع تل ابيب مع التركيز على وجوب وقف المساعدات السنوية لها. أو على الأقل البدء في "فطامها" عن هذا الدعم باعتبارها دولة غنية ولم يعد من الجائز تمويلها من بلد "مديون".
وكان من اللافت أن أقلاماً يهودية معروفة، ومنها من شغل مناصب ديبلوماسية سابقاً، ساهمت في هذه الدعوة وشددت عليها، ما عكس وجود بلبلة في أوساط الجالية اليهودية الأميركية التي يقلقها مثل هذا الحديث، ولو أن الإدارة ليست في وارد الاستجابة لمضمونه.
البيت الأبيض اكتفى بالتلويح الخجول "بصعوبة الاستمرار في العلاقات المميزة لو أصرّ نتنياهو على توجهه"، لكنه في ذات الوقت نزل، أي الرئيس، بثقله وما زال لتوسيع التطبيع مع إسرائيل رغم عدم تراجع حكومتها عن هذا التوجه.
في امتداد هذا التنافر، نشرت مجموعة من الأكاديميين رسالة بأكثر من ألف توقيع، تنبّه فيها من "نظام الأبارتهايد" الذي تمارسه إسرائيل على "الفلسطينيين الرازحين تحت الاحتلال". توصيف غير مسبوق، خصوصا أن بعض الموقعين على الكتاب كانوا من أشد المناوئين في السابق لتصنيف إسرائيل في هذه الخانة.
نشرت مجموعة من الأكاديميين رسالة بأكثر من ألف توقيع، تنبّه فيها من "نظام الأبارتهايد" التي تمارسه إسرائيل على "الفلسطينيين الرازحين تحت الاحتلال".
لكن الصورة تغيّرت مع ما يسمى بالإصلاح القضائي الذي تتمسك به حكومة نتنياهو، والذي ليس سوى صيغة تتوسلها الحكومة الإسرائيلية "لضم الأراضي الفلسطينية في الضفة".
الأهم من ذلك في رسالة الأكاديميين هو التشديد على أن المشكلة المطروحة الآن (احتمال الضم) "لم تبدأ مع الحكومة الإسرائيلية الحالية، ولكن مع التعالي اليهودي المتنامي منذ سنوات، والذي جرى تكريسه في القانون الإسرائيلي الأساسي (بمثابة دستور) الصادر في 2018 والذي ينص على أن إسرائيل هي بيت الشعب اليهودي".
فمثل هذا النص، معطوف على ما راكمه الاحتلال طيلة عقود وعلى مجاهرة وزراء في حكومة نتنياهو بنواياهم ضم أراضي الفلسطينيين، محكوم بأن يؤدي إلى "أبارتاهيد مكشوف" تقوده أقلية متطرفة وصلت إلى السلطة لتحولها إل حكم فاشيستي كما حصل في أوروبا".
كلام يدق ناقوس الخطر من خلال وضع إسرائيل في المكان الذي حجبته البروباغندا الفعالة طوال أكثر من 7 عقود. أهميته ليست فقط في كونه مجاهرة غير معهودة، بل أيضا في أنه يأتي في لحظة مؤاتية ومناخ متقبل في أميركا، كما في أوساط اليهود، بدأ ينظر إلى إسرائيل كقوة احتلال وكنظام تمييز عنصري.
وما يثير نقمة هذه الجهات أساساً ليس التعاطف مع الشعب الفلسطيني المستهدف بـ"الأبارتاهيد"، بقدر خشيتها من عدم قدرتها على احتضان نظام من هذا النوع. ولهذا تتمسك إدارة بايدن بصيغة الدولتين باعتبارها تحول من دون انزلاق إسرائيل إلى نظام عنصري سقطت عنه ورقة التين، وبما يجعل من المتعذر الاستمرار في قبوله ومنحه الموقع الممتاز الذي طالما حظي به في واشنطن.