على عتبات الـ 68 من عمره، يستنفر إدريس لشكر، الكاتب الأول (الأمين العام) لحزب "الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية"، أكبر أحزاب اليسار في المغرب، وأول قوة سياسية معارضة في البلاد، طموحه كي يدبر مرحلة حاسمة في تاريخ الحزب لـ"تأهيله سياسياً وتنظيمياً للفوز في انتخابات 2026، سواء من موقع يؤهله لقيادة الحكومة، أو على أقل تقدير المشاركة فيها من موقع متقدم وفاعل وأساسي"، بعد أن ظفر بولاية ثالثة على التوالي، مساء أمس السبت، خلال المؤتمر الحادي عشر للحزب المنعقد في مدينة بوزنيقة (جنوب العاصمة المغربية الرباط).
تسع سنوات انقضت على تاريخ تسلمه مقاليد الأمور داخل الحزب اليساري، لكن الرجل لم تغادره رغبة جامحة في البقاء السياسي بدعوى "المصلحة الحزبية"، و"الحفاظ على المكتسبات التنظيمية والسياسية، والسعي إلى المراكمة على هذه المكتسبات، والعمل على تطويرها من أجل أن يتبوأ الحزب، الذي قاد تجربة التناوب التوافقي في المغرب في عام 1998، المكانة التي يستحقها".
خاض الرجل حروباً ظاهرة وخفية من أجل أن يتربع على كرسي الكتابة الأولى للحزب، بعد أن نجح في بناء جدار تنظيمي بمعية مقربيه الذين شكلوا حزاماً أمنياً للدفاع عن أسلوبه في التسيير الحزبي. كذلك أفلح لمدة طويلة في رسم الخريطة التنظيمية التي تمنحه سلطة اتخاذ القرارات التي تخدم مصالحه إلى حد أنه دفع خصومه إلى مساندته في مواجهة خصومه الجدد، بفضل سلاحه الفعال المتمثل بخبرته الطويلة وإتقانه فن المناورة السياسية.
لم يكن ما حققه لشكر من نصر انتخابي خلال المؤتمر الحادي عشر، مفاجئاً للكثير من المتتبعين، ولقطاع واسع من الاتحاديين، بعد أن تمكّن وهو الموصوف بـ"بلدوزر التنظيم" من ضبط هياكل الحزب وتنظيماته المختلفة، وإبعاد معارضيه الذين اضطروا إلى الانسحاب من الحزب أو التواري عن الأنظار، فيما كان مصير من راهنوا على إسقاطه عبر صناديق الاقتراع خلال المؤتمر الحادي عشر، الاستبعاد من السباق الانتخابي إثر قرار لجنة التأهيل في المؤتمر، ليل الجمعة الماضية، حصر المنافسة على زعامة الحزب بين الكاتب الأول المنتهية ولايته، وعضو الحزب المقيم في إسبانيا طارق سلام، الذي اعتبره متابعون مجرد "أرنب سباق".
وبينما يربط معارضو لشكر بين فوزه بالولاية الثالثة والتعديلات التي لحقت قانون الحزب، وصيغت على مقاسه وطوعت على هواه بعدما تحكم في مفاصل الحزب التنظيمية، يدفع أنصار الكاتب الأول بأن تلك التعديلات احترمت الشروط الديمقراطية والتنظيمية، وتعبّر عن أغلبية المجلس الوطني (برلمان الحزب).
ولَج لشكر ميدان السياسة مبكراً منذ عقده الثاني، بعد أن انتمى إلى الاتحاد الاشتراكي في عام 1970، قبل أن يتقلد مسؤوليات عدة بدءاً من الاتحاد الوطني لطلبة المغرب (تنظيم طلابي جامعي) بين عامي 1972 و1976، ثم مسؤولاً وطنياً للشبيبة الاتحادية (التنظيم الشبابي لحزب الاتحاد الاشتراكي) بين عامي 1975 و1983، فعضواً في اللجنة الإدارية للحزب (برلمان الحزب) في عام 1984. كذلك شغل في عام 2001 عضوية المكتب السياسي للحزب، ورئاسة كتلته في مجلس النواب (الغرفة الأولى للبرلمان المغربي) ما بين 1999 و2007، وتمكن من تحقيق حلمه بقيادة الحزب، حينما انتخب كاتباً أول للاتحاد في المؤتمر التاسع المنعقد في ديسمبر/كانون الأول 2012، وهو المنصب الذي حافظ عليه في المؤتمر العاشر في مايو/أيار 2017.
وبين هذه المهام الحزبية عينه العاهل المغربي الملك محمد السادس وزيراً للعلاقات مع البرلمان في حكومة عباس الفاسي (يناير/كانون الثاني 2010 وديسمبر/كانون الأول 2011).
ويبقى لشكر، الذي أبصر النور في 25 سبتمبر/أيلول 1954 في العاصمة المغربية الرباط، من بين القيادات الحزبية المثيرة للجدل في المشهد السياسي بتصريحاته وبدخوله في صراعات مع خصومه داخل الحزب من أجل السيطرة على المواقع القيادية داخله، أو في صراعاته مع خصومه الإيديولوجيين، ولا سيما حزب "العدالة والتنمية" بقيادة عبد الإله بنكيران.
وخلال قيادته، أعاد للحزب وزنه واعتباره في انتخابات الثامن من سبتمبر/أيلول الماضي، كذلك عمل على توحيد الأسرة الاتحادية، وذلك بالعمل على دمج الحزب العمالي والحزب الاشتراكي في الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وأطلق المصالحة مع خصومه خلال ولايته الثانية.
ويضعه خصومه في مرتبة "الانتهازي" و"المزاجي" الذي "لا تقف صداقة ولا علاقة إنسانية أمام طموحاته، مدللين على ذلك بـ "انقلابه وإطاحته" الكثير ممن كان لهم الفضل عليه في مساره السياسي، ومن أبرزهم الكاتب الأول السابق، محمد اليازغي.
لشكر، الذي نال وصفاً بات لصيقاً به، وهو "الزعيم المحنك"، الذي نعته به العاهل المغربي الملك محمد السادس، عندما انتخب على رأس الحزب، يجمع في مساره السياسي الشيء ونقيضه. ففي الوقت الذي قاد فيه حملة شعواء للانسحاب من حكومة عباس الفاسي وتلويحه بالتحالف مع حزب "العدالة والتنمية" الإسلامي من باب "الكتلة التاريخية"، كتكتيك لمواجهة من وصفه بـ "الوافد الجديد"، حزب "الأصالة والمعاصرة"، الذي كان قد أسسه في عام 2008 صديق العاهل المغربي ومستشاره الحالي فؤاد عالي الهمة، سينقلب على مواقفه بالدعوة إلى التحالف مع "الوافد الجديد"، وهي الدعوة التي كان توزيره في حكومة عباس الفاسي الثانية في 2010 مكافأة له في سياق صفقة سياسية أبرمها مع زعيم "الأصالة والمعاصرة" آنذاك إلياس العماري، بحسب خصومه السياسيين.
وخلال قيادته لـ"الاتحاد الاشتراكي" طاولت لشكر العديد من الانتقادات، من أبرزها تحميله مسؤولية النكسة التي مُني بها الحزب في تشريعيات 2016، بعد أن تمكن من الحصول على كتلة نيابية بشق الأنفس، وكذا اتهامه بـ"رهن" الحزب لزعيم حزب "التجمّع الوطني للأحرار" عزيز أخنوش، وتهديد لوجود الحزب والذهاب به نحو الهاوية مع اقتراب انتخابات الثامن من سبتمبر/أيلول الماضي. كذلك كان هدفاً لسهام النقد في طريقة تدبيره للمفاوضات الحكومية التي انتهت بالاستغناء عن الوزير عبد الكريم بنعتيق، وباختزال المشاركة الاتحادية في حقيبة واحدة باسم الوزير محمد بنعبد القادر، في النسخة الثانية من حكومة العثماني في 2019.
غير أن لشكر تمكن من الخروج من عنق الزجاجة وإجهاض آمال منتقديه في إطاحته، بعد أن قاد مفاوضات مكنته من الظفر بثلاث حقائب وزارية ورئاسة مجلس النواب (الغرفة الأولى للبرلمان المغربي) في النسخة الأولى من حكومة سعد الدين العثماني في عام 2017. كذلك تمكن في تشريعيات 2021 من تحقيق نصر انتخابي بالظفر بالمرتبة الرابعة بـ34 مقعداً بزيادة 14مقعداً.
وبانتخابه للمرة الثالثة على رأس الحزب اليساري، يواجه لشكر امتحاناً جديداً بشأن إدارته لـ"مرحلة صعبة" في تاريخ الحزب الساعي لاستعادة بريقه النضالي في صفوف القوات الشعبية وممارسة معارضة قوية ضد "تغول" الأغلبية الحالية، وكذا قدرته على إنهاء الانقسام والخلافات التي طبعت المرحلة السابقة وزادت خلال محطة المؤتمر الحادي عشر.
وإن كان لشكر قد أعلن عقب إعلان فوزه بولاية ثالثة على التوالي، "تدشين انطلاقة جديدة في مسيرة تؤسس للتحرير والانعتاق الاجتماعي"، داعياً منافسيه في سباق الزعامة والاتحاديين كافة إلى نسيان الماضي، فإن الأمر الأكيد أن "الاتحاد الاشتراكي" يسير منذ مؤتمره التاسع بجرس معلق في العنق، بعدما فشل الكاتب الأول في رأب الصدع وتدبير الاختلاف داخله.