كثيرة هي الشواهد في إسرائيل التي ترشح دولة الاحتلال لأن تكون ثاني "دولة ديمقراطية" بعد شقيقتها الكبرى، الولايات المتحدة الأميركية، تشهد سيناريو من هجوم جموع غفيرة، مُحرضة ومُعبأة، على مقر البرلمان، أو مؤسسات الحكم، كما حدث الأربعاء الماضي في الولايات المتحدة. وذلك بفعل كثير من أوجه الشبه والتماهي، حد التطابق، بين نهج ومواقف الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وبين نهج ومواقف رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، من الحسم الديمقراطي وشرعية مؤسسات الحكم والقانون عندما يتعلق الأمر بهما. وإن كان الفارق الأساسي بين حالة ترامب ونتنياهو، رغم كونهما يعتمدان التحريض المثابر والمنهجي ضد قيم الديمقراطية، أن الأخير، يتحرك وينطلق بأساليب ديماغوجية تفوق شعبية ترامب، ويؤسس لها منذ سنوات، على الأقل منذ بدء التحقيقات في قضايا الفساد ضده في العام 2017.
وتعود أبرز شواهد، والأصح، بذور المخاوف من سيناريو مشابه لما حدث في الكونغرس الأميركي، إلى 2 ديسمبر/كانون الأول من العام 2018. وقبل أسبوعين تقريباً على حل نتنياهو الحكومة، والذهاب للانتخابات الأولى في إبريل/نيسان 2019، أعلنت الشرطة، في ذلك اليوم، وكان آخر يوم في ولاية المفتش العام السابق للشرطة روني الشيخ، رسمياً عن توصياتها بتقديم لوائح اتهام رسمية في قضية الرشاوى والفساد ضد نتنياهو، المعروفة بالقضية 4000. وتتصل هذه القضية بمنح شاؤول ألوفيتش، صاحب موقع "والاه" الإخباري، وشركة "بيزك" للاتصالات الأرضية، امتيازات مقابل تعديل خط تحرير موقع "والاه" ونشر أخبار إيجابية عن نتنياهو وعقيلته سارة.
طور نتنياهو نظرية المؤامرة بين أذرع مختلفة في إسرائيل ضده شخصياً، لأنه يمثل اليمين وحكم اليمين
وقد جاء رد نتنياهو، الأولي على القرار، على صيغة هجوم غير مسبوق على المفتش العام للشرطة، نفسه، وعلى الشرطة نفسها. وقال، أمام جمهور من حزبه، إن "موعد وطبيعة التوصيات كان متوقعاً، لأن حملة مطاردتنا لاصطيادنا مستمرة، وتوقيت نشر التوصيات مكشوف. لم أفاجأ من التوصيات التي نشرت اليوم، ولا من نشرها اليوم بالذات، فقد سبق وأن كشفوا قبيل بدء التحقيقات، قبل سنة من اليوم وأكثر قليلاً، عما ستكون عليه هذه التوصيات. وأقول لكم ما تحبون أن تسمعوه، إسرائيل هي دولة قانون، وفي دولة إسرائيل لا توجد لتوصيات الشرطة أي دلالة قانونية، وغالباً ما يتم رميها في سلة المهملات".
كانت هذه هي المرة الأولى التي ينتقل فيها نتنياهو من خط الدعاية التقليدي، بأن ما يواجهه هو حملات من الإعلام اليساري في إسرائيل، إلى الطعن بشرعية سلطات القانون، وفتح الطريق أمام حملات قادمة للطعن كلياً بكل مؤسسات الحكم وإنفاذ القانون، وتطوير نظرية المؤامرة بين أذرع مختلفة في إسرائيل ضده شخصياً، لأنه يمثل اليمين وحكم اليمين. وعلى أثر ذلك جاء دور أنصار نتنياهو، وعلى رأسهم الوزير السابق دافيد أمسالم، الذي هدد بأنه في حال قرر المستشار القضائي للحكومة أفيحاي مندلبليت تقديم لائحة اتهام رسمية ضد رئيس الحكومة، فإن الملايين من الإسرائيليين سيرافقون نتنياهو إلى المحكمة، ويحاصرون مبناها.
لم يتوقف نتنياهو لحظة في خطه الدعائي المتصاعد ضد الإعلام والخصوم وأجهزة الدولة. بل انتقل، مع الوقت، وبعد إقرار تقديم لوائح الاتهام ضده رسمياً، في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، وفشل في انتخابات إبريل بحصد عدد كافٍ من المقاعد لتشكيل حكومة جديدة، إلى تكريس وتكرار اتهاماته، لما أطلق عليه تعبير "الدولة العميقة" بالتعاون مع قوى اليسار والوسط، بالسعي الحثيث والمثابر لإسقاطه من الحكم عبر أروقة المحاكم والقضاء، بعد أن فشلوا "باستبدال" حكم اليمين عبر صناديق الاقتراع.
أظهر استطلاع أن 56 في المائة من الإسرائيليين لا يستبعدون أن يتكرر ما حدث في واشنطن في إسرائيل أيضاً
هذا التصعيد في خطاب نتنياهو جاء بعد أن حاول خلال معركتي الانتخابات في العام 2019، الادعاء بأن العرب واليسار يحاولون سرقة الانتخابات وتغيير نتائجها وتزييفها، خصوصاً في مراكز الاقتراع في البلدات العربية لفلسطينيي الداخل. وأرسل نتنياهو، صباح الانتخابات الأولى للعام 2019، في إبريل، فرقاً من نشطاء حزبه "الليكود" وأحزاب اليمين المتطرفة الأخرى، كمراقبين للجان الاقتراع، وقد حملوا معهم معدات تصوير وكاميرات خفية مزروعة في أقلام، ومعدات أخرى، لتوثيق "عملية تزوير الانتخابات في البلدات العربية". وقد أثار هذا الأمر حالة غليان، وسبب صدامات بين هؤلاء المراقبين وبين الناخبين من فلسطينيي الداخل ونشطاء الأحزاب العربية. واضطر نتنياهو وأحزاب اليمين إلى سحب مراقبيهم من مراكز الاقتراع العربية. وكرر نتنياهو المحاولة نفسها، ولكن هذه المرة من خلال محاولة إجراء تعديلات وتنظيمات من قبل لجنة الانتخابات المركزية، تتيح إدخال وسائل تصوير لمراكز الاقتراع.
وعلى مدار العام 2019، الذي شهد معركتي انتخابات لم يتمكن خلالهما من الوصول إلى عدد كافٍ من نواب الكنيست (120 عضواً) لتشكيل ائتلاف حكومي، ظل نتنياهو مصراً على أن محاكمته ولوائح الاتهام ضده ملفقة، وتهدف أساساً لإزاحته كمن يمثل اليمين من الحكم. واتهم اليسار، وجمعيات اليسار من الخارج، والتمويل الأجنبي (وبشكل خاص جورج سوروس الأميركي، والصندوق الجديد لإسرائيل) بضخ الأموال لأحزاب اليسار والعرب، من جهة، ودعم أوساط في مؤسسات الدولة لتتشدد في كل صغيرة يمكن الاستفادة منها ضده. وحتى بعد فوزه في الانتخابات الأخيرة، في مارس/آذار من العام 2020 بـ36 مقعداً، وتشكيل حكومة طوارئ وطنية مع حزب "كاحول لفان"، عاد نتنياهو إلى الحديث، في الدوائر المغلقة، عن دور الدولة العميقة في إدارة دفة الدولة وسيطرة البيروقراطيين على مقاليدها، ولا سيما النيابة العامة والشرطة. وهو ما يفسر امتناعه عن تعيين قائد عام للشرطة الإسرائيلية طيلة عامين، منذ إنهاء روني الشيخ مهام منصبه في ديسمبر 2018، والمماطلة في تعيين مدعٍ عام جديد، مع توجيه تهديدات على لسان رئيس الائتلاف الحكومي ميكي زوهر للمستشار القضائي للحكومة أفيحاي مندلبليت بفتح ملفات تحقيق ضده، وضد النائب العام السابق شاي نيستان.
المسار الذي قاده نتنياهو خلال العامين الماضيين، وجر إسرائيل لثلاث معارك انتخابية على أمل أن يتمكن من تشكيل حكومة يمين تقر قانوناً يمنع محاكمة رئيس الحكومة ما دام في منصبه، مع ما رافقه من شن حرب شعواء على مؤسسات القانون والقضاء والإعلام، يعزز في إسرائيل مخاوف من أن يلجأ نتنياهو في حال خسر الانتخابات القادمة، إلى عدم الاعتراف بالنتائج، ورفضها، مستعيناً بحالة "التعبئة"، التي يقوم بها باستمرار عبر شبكات التواصل الاجتماعي، ملتفاً على الإعلام التقليدي الذي يتهمه بأنه محكوم بأجندة معادية له، ليمرر نفس الرسائل التي تدعي أن التهم الموجهة له ملفقة كلياً. وهو ما واصل بثه على صفحته في الأسبوعين الأخيرين، في أكثر من مناسبة، داعياً إلى إلغاء لوائح الاتهام كلياً.
ولعل من أهم مؤشرات نجاح نتنياهو في حربه الإعلامية، وترسيخ كون ما حدث في الكابيتول، وارداً في إسرائيل، يتمثل في نتائج الاستطلاع، الذي نُشرت نتائجه أمس الأول الجمعة، في موقع صحيفة "معاريف"، وأشارت إلى أن 56 في المائة من الإسرائيليين لا يستبعدون أن يتكرر ما حدث في واشنطن، في إسرائيل أيضاً، وتأكيد عدد من كبار المعلقين في الصحف الإسرائيلية، رون بن يشاي في "يديعوت أحرونوت"، ويوسي فيرتر في "هآرتس"، وطال شنايدر في موقع "والاه"، وعاموس هرئيل في "هآرتس"، أن ما حدث هناك سيحدث هنا. بل إن ناحوم برنيع ذهب إلى القول إن المشاهد التي بثتها وسائل الإعلام الأميركية والعالمية هي ما يحلم نتنياهو بمشاهدته في إسرائيل أيضاً في حال خسر الانتخابات، واضطر لمغادرة مقر رئاسة الحكومة.