منذ أن جرى تعليق المفاوضات حول الملف النووي الإيراني، عاد التصعيد والتوتر بين إيران وإسرائيل إلى البروز من جديد ليحتلا معظم اهتمام الرأي العام في الشرق الأوسط والعالم عموما.
فبعد انطلاق الحرب الروسية على أوكرانيا، وما حملته من انقسام على مستوى مجموعة 4 زائد1 (فرنسا وبريطانيا وروسيا والصين وألمانيا) التي كانت راعية لهذه المفاوضات غير المباشرة بين إيران والولايات المتحدة الأميركية، سقطت هذه المفاوضات المخصصة لإعادة إحياء الاتفاق النووي لسنة 2015 في الماء، مقابل عودة بروز نذر الحرب بين طهران وتل أبيب.
هذه الأخيرة يبدو أنها بذلت الغالي والنفيس من أجل ثني واشنطن عن توقيع اتفاق كان من بين شروطه الأساسية إخراج الحرس الثوري الإيراني من قائمة المنظمات الإرهابية الأميركية، لتستأنف منذ ذلك الوقت "الحرب السرية" الإسرائيلية على إيران، ولتشير هذه الأخيرة إلى أنها ردت على هذه الضربات الإسرائيلية بصفة سرية غير معلنة.
"حرب الظل"
تشير صحيفة لوموند الفرنسية، في عددها ليوم الأحد الماضي، إلى أن إيران عرفت منذ 3 أسابيع موجة اغتيالات وحوادث موت ضربت القوات المسلحة ومراكز البحث الإيرانية، انطلاقا من مقتل اثنين من قياديي الحرس الثوري الإيراني يوم 22 مايو الماضي، أحدهما سقط برصاص شخصين يمتطيان دراجة نارية، والآخر سقط من فوق سطح، بالإضافة إلى سقوط مهندس في موقع "باشين" العسكري، الذي يتم فيه تطوير صواريخ وطائرات مسيّرة، بالإضافة للاشتباه بأنه موقع تتم فيه بحوث نووية عسكرية.
وفي نفس هذا السياق، تنقل صحيفة نيويورك تايمز الأميركية في عددها أمس الأول، عن مصادر إيرانية أن طهران تعتقد أن إسرائيل قامت بتصفية عالمين إيرانيين عن طريق تسميم طعامهما في مايو الماضي، مشيرة إلى أن الضحيتين هما أيوب انتظاري وهو مهندس طيران عمل في مركز عسكري للأبحاث، وكمران أغملائي وهو عالم جيولوجي.
كل هذه العمليات التي تصاعدت أخيرا، تأتي لتؤكد أن إيران وإسرائيل دخلتا في "حرب ظل"، والتي أضحت تتصاعد يوما بعد يوم، حسب ما عبرت عنه صحيفة لوموند، بالإضافة لصحيفة لوكوريي أنترناسيونال، في مقال نشر أمس الأول، التي أشارت بدورها إلى أن هذه الاغتيالات الغامضة تتجه لأن تكون اغتيالات مخططة، تتناسب مع "حرب الظل" مع إسرائيل، والتي تشهد تنفيذ مهمات سرية "من أجل تلافي حرب شاملة"، حسب ما تقوله هذه الصحيفة.
ولا يبدو سيناريو الحرب بين الطرفين، ببعيد، خاصة وأن ما يحدث اليوم "في الظل من حرب خفية" أصبح يخرج للعلن متبوعا بخطاب تصعيدي، يهدد فيه الطرفان بعضهما البعض بالفناء من جهة، وبالقضاء على "الحلم النووي الإيراني من جهة أخرى".
"تساهال" على الخط
ولعل ما صرح به القائد في الحرس الثوري الإيراني اللواء محمد علي جعفري لوكالة "تسنيم" الإيرانية من أن إيران قامت بضربات لأهداف إسرائيلية في الآونة الأخيرة، بعضها داخل إسرائيل وبعضها في دول أخرى، يؤكد خروج "حرب الظل" إلى العلن، خصوصا بعدما قامت تل أبيب بإجراءين اثنين.
أولهما يمكن وصفه بالإجراء الدفاعيّ الوقائيّ، تمثل في إعلانها أنها أحبطت هجوما إيرانيا ضد أهداف إسرائيلية في تركيا، وأكدت القناة الإسرائيلية 13، منذ أسبوع، أنه يتعلق بـ"هجوم إيراني على الأراضي التركية"، فيما يبدو أنه ليس هجوما واحدا كان مخططا خاصة بعدما أكدت صحيفة يديعوت أحرونوت أنه "تقرر إلغاء كافة التصاريح الاستثنائية التي منحت للضباط من أجل البقاء في الأراضي التركية، ومنع كل من يخدم في صفوف الجيش الإسرائيلي حتى من التوقف في المطارات التركية عند السفر إلى دول أخرى"، مما يعني تنوع الأهداف الإسرائيلية المستهدفة من قبل إيران، خصوصا بعدما أكد جهاز الأمن العام الإسرائيلي "الشين بيت" (أو الشاباك) كشفه لعمليات تجسس إيرانية تستهدف الجامعيين ومسؤولي الأمن والدفاع الإسرائيليين، تهدف لإرسالهم إلى خارج الأراضي الفلسطينية المحتلة قبل خطفهم أو تجنيدهم، وفق ما جاء في صحيفة هآرتس الإسرائيلية.
وثانيهما هجوميّ وقائيّ، عبر استهداف مطار دمشق الدولي بغارات من قبل الطيران الحربي الإسرائيلي، أشارت القناة الإسرائيلية 12 إلى أنها غارات لمنع طائرات إيرانية تحمل معدات عسكرية إيرانية من الهبوط على مدرج الطائرات.
كل هذه الإجراءات استتبعت بتصريحات من قبل المستوى السياسي والعسكري الإسرائيلي حول الاستراتيجية المتبعة من قبل تل أبيب تجاه إيران، فمن جهته يقول رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينت في إفادات نقلتها صحيفة نيويورك تايمز الأميركية خلال جلسة للجنة العلاقات الخارجية والدفاع بالكنيست الإسرئيلي: "السنة الماضية، كانت سنة التغييرات الاستراتيجية الكبيرة لإسرائيل تجاه إيران، حيث تحولنا إلى سرعتنا القصوى، نتفاعل مع التطورات في أي وقت وفي أي مكان وسنواصل ذلك".
هذه الإفادات تبدو متطابقة مع ما قاله بينت لصحيفة إيكونومست البريطانية في حديث نشر الأسبوع الماضي: "نحن نطبق "عقيدة الأخطبوط ضد إيران، لن نستهدف مجساته وحلفاءها في المنطقة فقط بل لنا معادلة جديدة تستهدف الرأس مباشرة".
كلام بينت يبرز أن الجانب الإسرائيلي يعد العدة فعلا لسيناريوهات حرب علنية ومفتوحة مع إسرائيل ولا تستهدف فقط ضرب حلفاء إيران في المنطقة مثل الجماعات المتحالفة مع طهران الموجودة في سورية ولبنان والعراق، بل كذلك "ضرب أهداف موجودة في إيران" مباشرة.
كلام كان قد سبقته أنباء حول مناورات عسكرية للقوات الجوية لجيش الاحتلال الإسرائيلي، شاركت فيها الولايات المتحدة، في شهر مايو/أيار الماضي أطلق عليها اسم "حاويات النار"، قامت فيها الطائرات الحربية الإسرائيلية بتمثيل ضرب أهداف عسكرية إيرانية متعددة في نفس الوقت في عملية عسكرية منسقة بين أكبر عدد من الطائرات.
وحسب موقع القناة الإسرائيلية 24، فإن "تساهال" (جيش الاحتلال الإسرائيلي) يملك العديد من السيناريوهات التي يمكن تنفيذها ضد إيران إذا "ما فشلت مفاوضات فيينا حول الملف النووي الإيراني"، كما أنها تستعد لصد أي هجمات موجهة من قبل حلفاء إيران في اليمن ولبنان وسورية والعراق بالصواريخ والطائرات المسيّرة الانتحارية.
"صواريخ آيات الله"
من جهتها، لم تتوان إيران عن إظهار قوتها في الردع، فمنذ اغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني في العراق، والرد عليه إيرانيا بإطلاق صواريخ استهدفت القوات الأميركية في العراق، أعلنت عن عدة تجارب صاروخية مختلفة، آخرها نيتها إطلاق صاروخ "ذي الجناح" والذي لديه مهمات جوفضائية، إضافة لمناورات عديدة لقواتها الصاروخية وقواتها البحرية في الخليج العربي، إضافة لقيامها بعمليات نوعية مثل "تحويل" وجهة ناقلة نفط يونانية إلى أحد سواحلها، بحجة أن اليونان قامت بالمثل مع إحدى سفنها سابقا.
إضافة لذلك، وبمبدأ "المعاملة بالمثل" أرسلت إيران رسالة إلى الدول العربية المطبعة مع تل أبيب، مشيرة إلى "خطورة ذلك عليها".
ففي بحر تفقّده منظومة الدفاع السلبي، والقوات الإيرانية، والخطوط العملياتية والدفاعية لهذه القوات في جزيرة طنب الكبرى المتنازع عليها مع الإمارات، حذر قائد القوة البحرية في الحرس الثوري الإيراني العميد علي رضا تنغسيري، من إيجاد موطئ قدم لإسرائيل في المنطقة، قائلاً إن هذه الخطوة ستؤدي إلى زعزعة استقرار وأمن هذه الدول نفسها، فضلاً عن المنطقة برمتها، مضيفا: "من يؤسس موطئ قدم للكيان الصهيوني العاجز والقاتل للأطفال والعدو الرقم واحد في هذه المنطقة، يكون قد سبّب زعزعة لأمنه وأمن المنطقة واستقرارها".
ولا يبدو أن طهران ستتغافل عن استعمال "صواريخ آيات الله" في أي من مغامراتها المقبلة إذا ما نشبت حرب علنية شاملة بينها وبين إسرائيل، خصوصًا مع تصريحات "الوعد والوعيد" التي سمعت في طهران وقم، مع كل جنازة لعلمائها وضباطها الذين تم اغتيالهم.
هذه التصريحات يبدو أن صداها سمع في الغرب، وخاصة في الولايات المتحدة الأميركية، حيث يستعد الرئيس الأميركي جو بايدن لزيارة المنطقة، يختمها بلقاء مع قادة دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، والعاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ورئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، في الرياض.
وحسب السكرتيرة الصحافية للبيت الأبيض كارين جان بيير، في بيان: "سيزور الرئيس جو بايدن منطقة الشرق الأوسط خلال الفترة من 13 إلى 16 يوليو، لتعزيز التزام الولايات المتحدة الصارم بأمن إسرائيل وازدهارها".
ويبدو أن هذا العنوان يؤكد من جديد أن الإدارة الأميركية الحالية، التي تبحث عن مخرج من ارتفاع أسعار المحروقات وتأثير ذلك على نتائجها في انتخابات التجديد النصفي للكونغرس، قررت القيام بخطوة إلى الخلف وإعادة إصلاح علاقاتها مع حلفائها في المنطقة، ولن يكون ذلك إلا تحت عنوان واحد "التصدي للخطر الإيراني"، نفس العنوان الذي يبدو أن رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينت بات مقتنعا به في سعيه للحفاظ على موقعه الحالي ونجاة ائتلافه الحكومي الهش من الاضمحلال، مع استعداد غريمه السابق، زعيم حزب الليكود الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، للرجوع إلى الساحة السياسية الإسرائيلية مستفيدا من "زلات" خصمه السياسية والاستراتيجية.