فجأة أعلنت الإدارة الأميركية، صباح الأربعاء، عن إطلاق موسكو سراح تريفور ريد، الجندي السابق بالمارينز، الذي كان موقوفًا منذ 2019 بتهمة الاعتداء على اثنين من رجال الشرطة الروسية، مقابل الإفراج عن مواطن روسي موقوف في أميركا بتهمة تهريب مخدرات.
الصفقة بحد ذاتها ما كانت لتثير الاهتمام لولا توقيتها، إذ حصل مثلها في السابق مع إيران وأفغانستان وفنزويلا وهايتي وغيرها، لكن حصولها الآن وسط حالة التوتر القصوى بين واشنطن وموسكو فرض ربطها بالحرب في أوكرانيا، وما يجري من مساع وجهود مكشوفة ومستورة للعثور على مخرج دبلوماسي لها رغم ما تشير إليه مجرياتها من انسدادات.
سارعت الإدارة الأميركية إلى نفي وجود علاقة بين هذا التطور والحرب. فور الإعلان عن عملية التبادل، أجرى اثنان من المسؤولين في وزارة الخارجية لقاء بالهاتف مع الصحافة للتأكيد على هذه النقطة بالذات.
وشدد المسؤولان على أن الصفقة "لن تؤدي سوى إلى (صفر) من التغيير في موقف واشنطن ومقاربتها تجاه حرب أوكرانيا"، مشيرين إلى أن المفاوضات مع الروس بشأنها "بقيت محدودة على المبادلة دون التطرق لأي جوانب دبلوماسية أخرى"، وكررا نفي أن تكون الصفقة "جزءًا من تحرك دبلوماسي أوسع".
مع ذلك، فمجرد أن تكون الخطوط مفتوحة للحوار ولو في هذا الإطار الضيق "هو أمر جيد"، ويرمز إلى حلحلة في التواصل، كما يقول الدبلوماسي والسياسي المخضرم بيل ريتشاردسون، وهو الخبير في صفقات التبادل هذه، والذي لعب دور الوسيط في أكثر من عملية مشابهة. فهو يعرف من خبرته أن كسر انسداد من هذا النوع يفتح الباب أحيانا كثيرة وإن بشكل موارب، لتوسيع قنوات الاتصال وتنويعها.
وما يعزز مسألة التوقيت هو أن الأيام الأخيرة شهدت تحركات باتجاه البحث عن مخرج للحرب، وإن بدت مثل هذه المحاولات رمزية، خاصة في ضوء التصعيد العسكري والتلويح بالخيار النووي، وربما يكون ذلك من "لوازم طبخة الحل في آخر المطاف".
اندرجت في هذا السياق زيارة الوزيرين أنتوني بلينكن ولويد أوستن لأوكرانيا ولقائهما مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، والتي كانت أبعد من عملية "استطلاع وشدّ عصب".
كذلك، كانت خطوة استئناف السفارة الأميركية لعملها بكامل طاقمها في مدينة لفيف، تمهيدا لرجوعها "في أقرب وقت إلى مقرها في العاصمة كييف"، أكثر من تدبير إداري. انعكس ذلك في خطابهما المتوازن وحرصهما على ترك خطوط الرجعة مفتوحة. فقط "نريد إضعاف (وليس هزيمة) روسيا"، قال الوزير أوستن.
وأوضح وزير الخارجية أنتوني بلينكن أن الغرض من ذلك هو "تمكين أوكرانيا في الوقت الحالي من تعزيز وضعها الميداني، وبما يؤدي إلى تحسين موقعها التفاوضي لاحقاً في المفاوضات" عندما تحصل.
وأضاف: "نعتزم عمل كل ما بوسعنا للمساعدة في إنهاء هذه الحرب بالشروط الممكنة وبأسرع وقت". هذه المخاطبة ليست جديدة، إذ سبق للرئيس بايدن أن قال أخيراً إن "بوتين لن ينجح في احتلال كل أوكرانيا والسيطرة عليها. هذا لن يحصل"، وكأنه ترك مساحة مفتوحة للمساومة حول أجزاء من أوكرانيا في إطار تسوية على أساس الأمر الواقع القائم في شرقها وبعض جنوبها.
سيناريوهات مثل هذا السيناريو بدأت تتداولها بعض الجهات العارفة بما يدور في الكواليس، من زاويتين: الأولى تدور حول الاعتقاد بأن الظرف الحالي مُوات للوصول إلى تسوية، حيث إن الكرملين ما زال قادرا على تحمل النكسة العسكرية الروسية، وبالتالي يمكن توظيفها لتسويق حل يحول دون "حشر بوتين في الزاوية" ووضعه أمام خيارات خطيرة كان قد هدد بها.
أما الزاوية الثانية، فتتعلق بزيلينسكي الذي أبدى استعداده للتفاوض على صفقة يمكن أن تكون اللحظة الراهنة ناضجة على الأقل للمباشرة في التأسيس لانطلاقها. ثم جاءت زيارة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس إلى موسكو وكييف، والتي بدأها في أنقرة المطلعة على جو وإشكالات ومفاتيح الحل، بحكم استضافتها جولات مفاوضات روسية أوكرانية.
كل ذلك لا يعدو كونه إشارات تراوح بين جس النبض والمناورة التي لا تخلو من التضليل وحرف الأنظار. الترجيح أن موسكو لن تقدم على خطوات تسوية في المدى القريب قبل أن تستكمل "دكّ المواقع العسكرية الأوكرانية في الجنوب لضمان ربطه بشبه جزيرة القرم".
التكهنات والسيناريوهات كثيرة، إلا أن المؤكد أنه باستثناء الخيار النووي الانتحاري، ستكون هذه الحرب محكومة بالعودة إلى الطاولة في نقطة ما. وإذا صح أن دينامية الحلول في الحروب تسير على إيقاع دينامية الميدان، عندئذ تكون لحظة التحرك الدبلوماسي في الوقت الحالي مواتية ولو غير مضمونة. فالحرب لا تسير على ما يرام بالنسبة للكرملين، وفق كافة التقديرات الأميركية، إلا إذا كانت حسابات الرئيس بوتين مختلفة.