يعيش المشهد السياسي الفلسطيني حالة من الترقب وسيناريوهات لا تنتهي حول تشكيل الحكومة المقبلة، إذ يزداد "بازار" الأسماء المرشحة لتولي الحكومة الجديدة وتقل الأجوبة، في ظل حراك فتحاوي هو أقرب للتنافس منه إلى الحراك لتشكيل حكومة فصائلية وشخصيات مستقلة.
وترى حركة فتح أن إقالة حكومة الوفاق الوطني عبارة عن فك ارتباط مع حركة حماس أولاً، وخطوة نحو تشكيل حكومة تقودها "فتح" لترتيب عقد انتخابات تشريعية فقط وقيادة المرحلة المقبلة. لكن طريق هذه الأسباب، التي صرح بها أعضاء من مركزية فتح، إلى جانب أسباب أخرى لم يتم الإعلان عنها لترتيب المرحلة المقبلة، أي مرحلة "ما بعد" الرئيس محمود عباس، لن تكون معبّدة. ويرى مراقبون أن اجتماع أسباب سياسية، أهمها "فك الارتباط" مع حركة حماس لترتيب المرحلة المقبلة، إلى جانب أوضاع اجتماعية واقتصادية تجلت في الاحتجاجات ضد الحكومة، أدت إلى إقالة حكومة رامي الحمدلله، حتى لا ترتد هذه الاحتجاجات على رأس هرم فتح، أي السلطة الفلسطينية.
وأعلن أعضاء في مركزية فتح، مثل حسين الشيخ وعزام الأحمد ومحمود العالول، أن انتهاء حكومة الوفاق الوطني يأتي بعد وصول الحوار مع "حماس" إلى طريق مسدود، مؤكدين أنها لن تكون في الحكومة الفصائلية المقبلة. وقال الأحمد، في تصريحات إعلامية قبل يومين، "نريد فك الارتباط مع حماس. لا نريد أن نبقى مثل الشماعة، والحكومة آخر من يعلم ما يدور في غزة. نحن نتشاور لتشكيل حكومة فصائلية من سياسيين، لأن الطابع السياسي للأزمة بدأ يطغى على الطابع التقني. رغم ذلك إذا سلمت حماس إدارة غزة إلى حكومة الوفاق الوطني، وفق ما تم الاتفاق عليه، سنتوقف عن الاستمرار في المشاورات، ونؤجل تشكيل حكومة جديدة إلى أن تتسلم حكومة الوفاق الوطني إدارة غزة. وبعد ذلك بفترة، لا أستطيع تنبؤها، نبدأ في البحث عن صيغة تشكيل حكومة وحدة وطنية تشارك بها فتح وحماس والفصائل جميعها". لكن الأحمد، المكلف بملف المصالحة منذ سنوات، يعلم أن "تسليم إدارة غزة" المطلوب من حماس وفق ما تريده فتح بات أمراً مستحيلاً، وأن هذه الخطوة قوبلت برفض من الجبهتين الشعبية والديمقراطية للمشاركة في هذه الحكومة، مؤكدتين أن "تنفيذ قرارات المجلسين الوطني والمركزي حول تحديد العلاقة مع إسرائيل ووقف التنسيق الأمني أولوية الآن". يذكر أن السلطة الفلسطينية، التي اتخذت خطوة "فك الارتباط" مع حماس عبر إقالة حكومة الوفاق الوطني، كانت قررت أخيراً إنشاء "منتدى الحرية والسلام"، المنبثق عن لجنة التواصل مع الإسرائيليين، كقناة جديدة للتواصل مع الإسرائيليين، إذ تأسس هذا المنتدى من دون ضجة إعلامية تذكر.
أما الأسباب الأخرى التي دفعت السلطة لإقالة حكومة الحمدلله، فهي امتصاص الغضب الشعبي، بعد تصاعد الاحتجاجات ضد الحكومة، في ظل تعاظم جرائم الاحتلال في الضفة الغربية وامتداد أذرع منسق الإدارة المدنية للاحتلال في تدبير شؤون المواطن الفلسطيني من علاج وعمل وتنقل، مع الإبقاء على التنسيق الأمني الفعلي على الأرض بين السلطة وإسرائيل، وعدم مواجهة الاحتلال الإسرائيلي من قبل الأمن الفلسطيني، حتى بعد مساسه بمؤسسات سيادية فلسطينية في رام الله في الأسابيع الماضية. كل هذه الأمور أدت إلى دق جرس الإنذار بضرورة تغيير الحكومة حتى لا تصل هذه الاحتجاجات للسلطة.
وشهد عام 2018 ذروة الاحتجاجات ضد حكومة رامي الحمدلله، إذ وصل عددها إلى ألف اعتصام في الضفة الغربية. ويتعاظم شعور فتح بالخطر من الاحتجاجات الشعبية، لأنها الحزب الحاكم. فرأس السلطة وقادتها من قيادات الأجهزة الأمنية والمحافظين والعاملين في الوظائف العليا من فتح، بينما ينتقد أبناء الحركة المتنفذين المقربين من محمود عباس، مثل وزير المالية بشارة شكري، ووزير الخارجية رياض المالكي، ومستشاره محمود الهباش، ورئيس صندوق الاستثمار محمد مصطفى، وهؤلاء محط انتقاد دائم من الحركة لأنهم ليسوا أبناء التنظيم.
وحسب مصادر أمنية رفيعة المستوى لـ"العربي الجديد"، فإن تقديرات أمنية وصلت إلى عباس بضرورة امتصاص غضب غليان الشارع الفلسطيني، بعد تزايد الاحتجاجات التي فجّرها الغضب من موضوع الضمان الاجتماعي، والتي شارك بها الآلاف على مدار الأشهر الثلاثة الماضية. وأشارت المصادر إلى أن "هناك نحو ألف اعتصام في الضفة الغربية خلال 2018 فقط، ما يعني ثلاثة اعتصامات يومياً".
وخرجت تظاهرات احتجاجاً على المس بالضمان الاجتماعي، والتقاعد القسري المبكر للمعلمين والعسكريين (التقاعد القسري إجراء انتقامي للتخلص من الموظفين الحكوميين)، وللمزارعين، بالإضافة إلى تظاهرة تم قمعها كانت تطالب برفع العقوبات" عن قطاع غزة. كما احتج الأسرى المحررون المقطوعة رواتبهم، وتم إغلاق شوارع ضد قتل الأمن الفلسطيني مدنيين كما في بلدة العيزرية قرب القدس في أغسطس/آب الماضي.
وتظاهر فلسطينيون ضد البطريرك اليوناني المتهم بتسريب أملاك الكنيسة للاحتلال، وضد الاعتقال السياسي، واحتجاجاً على وصف وزير الحكم المحلي حسين الأعرج لأحد القائمين على حراك الضمان الاجتماعي بأنه مستوطن إسرائيلي. ويضاف إلى الاحتجاجات الانتقادات التي توجه إلى منظومة القضاء واتهامها بالترهل وسيطرة السلطة التنفيذية عليها، وصدور تعيينات بمراسيم رئاسية غير قانونية، تم الطعن بها أمام المحكمة العليا، كما حدث مع النائب العام الأسبق أحمد براك الذي تم وقفه عن العمل بعد ثلاثة أعوام على تولي منصبه بسبب عدم قانونية تنسيبه للمنصب.
لكن أكبر التحركات كانت رداً على موضوع المس بالضمان الاجتماعي الذي تمسّك به الحمدلله، بقوله إن "قطار الضمان قد انطلق". لكن تحالف رأس المال الفلسطيني من جهة وخوف المواطنين وعدم ثقتهم بالسلطة أدى لاحتجاجات كبيرة، على اعتبار أنه يمّس قوت الناس، ما أجبر عباس على إصدار مرسوم رئاسي يوقف العمل به. أما على الصعيد الاقتصادي فقد أكد الخبير الاقتصادي محمد عبد الله، لـ"العربي الجديد"، أن "العجز في الميزان التجاري الفلسطيني في فترة تولي رئيس الحكومة الفلسطينية رامي الحمدلله بلغ 4.7 مليارات دولار في 2017". وعلى الرغم من اعتباره أنه أعلى عجز منذ إنشاء السلطة الفلسطينية، فإنه رفض تحميل السلطة مسؤوليته، موضحاً "ليست الحكومة سبب هذا العجز، لأنه مرتبط بالبنية التجارية الاقتصادية، وسيطرة إسرائيل على حركة التجارة والمعابر والموارد الطبيعية، ومعظمها موجود في المناطق المصنفة ج". وقال "واصل عجز الميزان التجاري صعوده منذ الإعلان عن أرقام الميزان التجاري الفلسطيني في تسعينيات القرن الماضي، واستمر حتى 2017، بسبب نمو الواردات بنسب أكبر من الصادرات. لا يمكن تحميل إخفاقات الحكومة لرئيسها الحمدلله وحده، إذ من المعروف أنه يعود في كل كبيرة وصغيرة إلى عباس، وهناك قرارات أصدرها الرئيس من دون الرجوع لرئيس الحكومة مثل العقوبات على قطاع غزة والكثير من المراسيم الرئاسية".
وقال المحلل والكاتب هاني المصري، لـ"العربي الجديد"، إن "غياب العمل المؤسسي، والفصل بين السلطات، وتعويم المؤسسات والفصائل، بما فيها فتح، جعل كل شيء بيد الرئيس، وبالتالي هو المسؤول الأول عن كل ما يجري. أما الحكومة فهي أداة تنفيذية، وأما رئيسها فهو موظف بدرجة رئيس حكومة". لكن عملية إقالة حكومة الحمدلله، وبقائها لتسيير الأعمال لن تجعل مهمة فتح أسهل في اختيار رئيس الوزراء المقبل. وفي حين قالت عضو مركزية فتح دلال سلامة، لـ"العربي الجديد"، إنه "تم التوافق على أن يكون رئيس الوزراء المقبل من مركزية فتح"، وتأكيد عضو المجلس الثوري للحركة، عبد الإله الأتيري، أن "أمام الحركة أسبوعين لإنهاء المشاورات"، فإن عملية اختيار المرشح المقبل تبدو شاقة جداً. وتشهد مركزية فتح تجاذبات وتحالفات حول من سيقود الحكومة. وبينما ينخرط أعضاؤها في تكوين جماعات ضغط، أو ما يُعرف داخل الحركة بـ"الكولسات"، فإن الهوة تتسع بين الأعضاء، لأنهم يعلمون أن منصب رئيس الوزراء في هذا الوقت الحساس بعد تدهور صحة عباس خلال العام الماضي، يعني أن كرسي رئيس الوزراء سيقرّب صاحبه من عتبة مقر الرئاسة الفلسطينية مستقبلاً. ويأتي تأكيد نائب رئيس حركة فتح محمود العالول "عدم تسمية أحد من أعضاء الحركة لمنصب رئيس الوزراء حتى الآن"، وتهديد عزام الأحمد بأن "رامي الحمدلله من الممكن أن يكون رئيساً للحكومة المقبلة"، دليلين على صعوبة اختيار رئيس للحكومة من أعضاء مركزية فتح.
وكانت مصادر فتحاوية قد أكدت، لـ"العربي الجديد"، أن "اجتماع مركزية فتح الأحد (الماضي)، شهد تجاذبات بين الأعضاء. وكان اسم محمد اشتية من بين المرشحين الأوفر حظاً" لترؤس الحكومة، لكن هناك معارضة شديدة من جبريل الرجوب وتوفيق الطيراوي، إلى جانب أن صائب عريقات طالب برئاسة الحكومة، على اعتبار أن الحكومة الجديدة هي حكومة منظمة التحرير. لكن عضو "المركزية" حسين الشيخ رفض ذلك على اعتبار "أنه لا يصح أن يطلب عريقات المنصب بنفسه، فضلاً عن أنه أمين سر للجنة التنفيذية ولا يجوز أن يجمع بين كل هذه المناصب". لكن لا يبدو أن العالول يطمح إلى هذا المنصب، بل يشكل إحدى القوى الرئيسية في اختيار المرشح، ولا يحظى عزام الأحمد بدعم يذكر لتولي الحكومة حتى الآن، فيما تبدو فرص حسين الشيخ منحصرة في التأثير وترجيح كفة مرشح تختاره "كوتا" العالول غالباً. ويعرف كل أطراف هذه التجاذبات أن الكلمة الأولى والأخيرة لعباس فقط، وفي حال انعدم التوافق بين أعضاء مركزية فتح، فإن عباس سيتفرد كعادته بالقرار، لكن هذه المرة مع تبرير أنه "أعطاهم فرصة الاختيار لكنهم أخفقوا" كما يقول مصدر فتحاوي اشترط عدم ذكر اسمه. وإضافة للسيناريوهات أعلاه، رأى الكاتب هاني المصري أنه "في حال استمرار الخلافات داخل مركزية فتح، وعدم توافقها على مرشح، فسيذهب الرئيس إما إلى اختيار مرشح مقرب منه من غير أعضاء المركزية، أو سيعمد لإبقاء حكومة رامي الحمدلله تُسير الأعمال لأطول وقت ممكن". وسبق أن بقيت حكومة سلام فياض تسيّر الأعمال لنحو عام ونصف العام.