بعد ثلاثة أسابيع من المراوغة الرئاسية، إذ كان على رئيس الحكومة جان كاستكس تقديم استقالته مباشرة بعد الدورة الثانية من انتخابات الرئاسة التي أجريت في 24 إبريل/نيسان الماضي، كشف الرئيس الفرنسي المعاد انتخابه لولاية ثانية، إيمانويل ماكرون، أول من أمس الإثنين، عن اختيار سيّدة لرئاسة الحكومة الجديدة، هي وزيرة العمل منذ 2020، إليزابيث بورن. وتحمل بورن البالغة من العمر 61 عاماً، صفة التكنوقراطية المتصلبة.
وبغض النظر عن أنها الامرأة الثانية فقط التي تتولى هذا المنصب منذ 30 عاماً، ما يعدّ إخفاقاً في الحياة السياسية الفرنسية والتي يرى متابعون بأنها تتسم بالكثير من الذكورية بالنسبة إلى المراكز الحاسمة لجهة اتخاذ القرار، فإن اختيار بورن، لا يشي بعزم الرئيس على إحداث تغيير كبير في سياسته بعد رحيل كاستكس.
ماكرون صاحب القرار الأول
وتعتبر بورن، بشكل عام، امتداداً لسلفها، الذي سلّمها أول من أمس مقاليد السلطة التنفيذية في قصر ماتينيون (المقر الرسمي للحكومة)، لجهة أنها ستكون بدورها أداة تنفيذية لسياسات ماكرون، لتمرير أجندته للولاية الثانية، والتي سيكون عنوان كل بند فيها مادة للسجال السياسي مرتفع الوتيرة في البلاد، خصوصاً في مجال الإصلاح الاجتماعي.
بهذا المعنى، وبعد رئاسة وزراء كانت حافلة بالتوترات مع إدوار فيليب (شغل منصب رئيس الوزراء بين مايو/أيار 2017 ويوليو/تموز 2020)، يواصل ماكرون، الاتكاء على شخصيات سياسية أقلّ رغبة بالصعود السياسي، وأكثر ميلاً لإدارة الملفات، بعدما تمكن كاستكس من عبور سفينة كوفيد 19 بنجاح. وسيكون الاختبار الأصعب لبورن، تمرير مشروع إصلاح نظام التقاعد، الذي يعارضه اليمين المتطرف واليسار الفرنسيان على حدّ سواء، فيما كان في سجلّها في وزارة النقل، تمرير إصلاح ماكروني، أضر أيضاً بالنقابات (ومتعلق بالشركة الوطنية لسكك الحديد).
وبعدما استبعد أخيراً، اسم الوزيرة السابقة كاثرين فوتران من خلافة كاستكس، والتي كان جرى تداول اسمها على نطاق واسع في الإعلام الفرنسي خلال الأسابيع، يوحي اختيار بورن، القريبة من الحزب الاشتراكي لفترة طويلة، والتي عملت عن كثب مع حكومات الحزب، للوهلة الأولى، برغبة ماكرون بالتقرب من التيار اليساري، على مقربة من الانتخابات التشريعية المقررة في يونيو/حزيران المقبل.
إليزابيث بورن هي السيّدة الثانية التي تتولى رئاسة الحكومة الفرنسية منذ 30 عاماً، بعد إديت كريسون
وتعرف فوتران بقربها من الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي، الذي أعلن دعمه لماكرون في الرئاسيات. مع العلم أن ماكرون كان قد أكد خلال فترة الانتخابات أنه لم يقدم وعوداً وزارية لساركوزي بحال فوزه بولاية جديدة. ويبدو أن ماكرون اختار عوضاً عن ذلك، شخصية محنكة، صاحبة خبرة طويلة بالتفاوض مع اليسار والنقابات العمالية.
إليزابيث بورن... يسارية على مقاس "النهضة"
ويعكس "بروفايل" رئيسة الحكومة الفرنسية الجديدة، والتي توصف بأنها ماكينة عمل لا تهدأ، نوايا الرئيس، أو اختياراً "يسارياً" له على مقاس حزبه "النهضة" ("الجمهورية إلى الأمام" سابقاً).
وبخلاف الأجندة البيئية التي تعهد بإيلائها قدراً كبيراً من الاهتمام، كون بورن ستكون مكلفة بملف "التخطيط البيئي"، فإن اختيارها للمنصب يلبي طموحات الإليزيه بالإسراع في تطبيق الإصلاحات الاجتماعية التي تقع في صلب أجندة ماكرون. ويتطلب هذا التوجه تفاوضاً شاقاً وذكياً مع النقابات الفرنسية، التي كانت نجحت في إعاقة إصلاحات له قبل نهاية ولايته الأولى.
ويتربص اليسار الراديكالي واليمين المتطرف، اللذان باتا يشكلان مع حزب ماكرون، الواجهة الحزبية الثلاثية الجديدة للبلاد، أيضاً بهذه الإصلاحات. وسارع زعيم اليسار الراديكالي جان لوك ميلانشون، والذي حلّ ثالثاً في انتخابات الرئاسة الأخيرة، وتمكن من توحيد تيار اليسار لخوض التشريعيات، إلى القول بعد الإعلان عن اختيار بورن: "ها نحن نذهب إلى موسم آخر من سوء المعاملة الاجتماعية".
ويحتاج ماكرون إلى أغلبية في البرلمان لدفع أجندته المحلية، بعدما أدّت إعادة انتخابه إلى تشكّل تحالف يساري نادر لخوض التشريعيات، فيما أكدّ اليمين المتطرف بزعامة مارين لوبان أنه سيعمل على عرقلة برنامجه. ويأمل ماكرون أن يؤدي الدفع بسيّدة إلى ماتينيون، أولاً، والوفاء بوعد اختيار سيدّة لرئاسة الحكومة والذي كان قطعه في 2016، بتسجيل نقطة قبيل موعد الدورة الأولى من الانتخابات التشريعية في 12 يونيو.
إلى ذلك، ينتظر بورن التي عينت سابقاً وزيرة النقل، ثم الانتقال البيئي، ثم العمل، الكثير من الملفات الثقيلة، بدءاً من المسألة الآنية والملحة والتي تتعلق بالقدرة الشرائية، مروراً بالسياسة البيئية للسنوات الخمس المقبلة، وصولاً إلى رفع سنّ التقاعد.
وكان ماكرون قد أكد بعد فوزه بولاية ثانية أن تركيزه سينصب على "المسألة الاجتماعية، البيئية، والإنتاجية"، فضلاً عن أوروبا والأمن. وكتب ماكرون على "تويتر"، بعد الكشف عن اسم خليفة كاستكس: "بيئة، صحة، تعليم، العمل بدوام كامل، النهضة الديمقراطية، الأمن وأوروبا: سوية مع الحكومة الجديدة، سنواصل التحرك من دون كلل من أجل الفرنسيين والفرنسيات".
ستكلف رئيسة الحكومة الفرنسية الجديدة بملف التخطيط البيئي
ولن يكون بمقدور حكومة بورن العمل بأريحية، قبل معرفة النتائج النهائية للتشريعيات، التي ستخاض دورتها الثانية في 19 يونيو. وتأمل القيادة السياسية في حزب ماكرون أن تجذب السمة الديمقراطية – الاجتماعية لبورن، شريحة من الناخبين الاشتراكيين المترددين في التصويت لتحالف ميلانشون – الاشتراكي – الشيوعي – البيئة.
الدفع أولاً... ثم رفع سنّ التقاعد
وسيكون مشروع قانون التمويل التصحيحي للقدرة الشرائية، الأول على طاولة رئيسة الوزراء الفرنسية الجديدة، التي سيقع على عاتقها التعامل مع أكثر الملفات الاقتصادية إلحاحاً الناجمة عن الحرب الروسية على أوكرانيا، بالإضافة إلى تمديد الدعم على تعرفة الغاز والكهرباء حتى نهاية العام الحالي (شبكة الأمان)، و"الشيك الغذائي" الذي يستهدف العائلات متواضعة الدخل.
وإذا كان سيتعين على بورن، بحسب تعبير صحيفة "ليبراسيون"، إخراج دفتر الحساب أولاً، أي الدفع، فإن ملف إصلاح نظام التقاعد لن يتأخر في الأدراج، إذ كان أبدى ماكرون رغبة في الانتهاء منه بحلول يناير/كانون الثاني المقبل. وسيكون على عاتق بورن، المعروفة بمواهبها "التفاوضية مع النقابات"، إدارة حوار موسع مع النقابات العمّالية في البلاد، خلال الصيف الحالي.
يذكر أن بورن توجهت أولاً إلى النساء خلال تسلمها منصبها الإثنين، قائلة إن "لا شيء يمكن أن يوقف النضال من أجل مكانة المرأة في مجتمعنا"، مهدية تعيينها إلى "كل الفتيات الصغيرات" اللواتي يجب أن "يحققن أحلامهن". وتعهدت برد فعل "أسرع وأقوى" على "التحدي المناخي والبيئي".
وفي حوار مع صحيفة "جورنال دو ديمانش"، قالت إديت كريسون، التي كانت تولت رئاسة الوزراء لفترة وجيزة بين مايو/أيار 1991 وإبريل/نيسان 1992 في عهد الرئيس الراحل فرنسوا ميتران، إن السياسة الفرنسية ظلت "ذكورية"، معتبرة أن على إليزابيث بورن "التحلي بكثير من الشجاعة".
يذكر أن بورن، الحائزة على شهادة الهندسة للجسور والطرقات، ترشحت قبل تعيينها رئيسة للوزراء، لخوض الانتخابات التشريعية، عن المقاطعة السادسة لمنطقة كالفادوس (نورماندي). وأكدت مصادر عدة من حزب ماكرون، أمس، للإعلام الفرنسي، أنها تعتزم الاستمرار بترشحها لتكون عضواً في البرلمان الفرنسي، حتى مع تعيينها الجديد، ما يعني بحال فوزها أنها ستقود الأكثرية الرئاسية في البرلمان.
(العربي الجديد)