جاء إعلان الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي إنهاء حالة الطوارئ المفروضة في جميع أنحاء الجمهورية منذ إبريل/نيسان 2017، مفاجئاً لمراقبين، لكن البعض يرى أنه مجرد قرار صوري يعيد البلاد من حالة الاستثناء الصريحة إلى حالتها الواقعية التي تعيشها منذ وصول السيسي إلى السلطة، إذ يسيطر الأخير على الجيش والقضاء والحكومة، وسط خنق الحريات العامة والمجال العام، وغياب التداول الحقيقي للسلطة. هذا الواقع يجعل من قرار إنهاء حالة الطوارئ، والاحتفاء الإعلامي الرسمي به من نفس الأشخاص والجهات الذين كانوا يدافعون عن مد حالة الطوارئ كل ثلاثة أشهر على مدار أربع أعوام ونصف العام، مجرد رسالة موجّهة إلى الخارج.
ويسود اعتقاد بأن صانع القرار المصري يحاول انتزاع رضا واشنطن وباقي العواصم الغربية الرئيسية، لا سيما مع وجود مؤشرات تؤكد أن الإدارة الأميركية ستتشدد معه على الرغم من أنها أبدت في عامها الأول تساهلاً وخفضت المبلغ المحجوز من قيمة المعونة السنوية كمقابل لفتح المجال العام. كما أنه -وبعيداً عن هذا التشدد- يرغب السيسي في موقع متميز على مستوى المنطقة كزعيم إقليمي يمكن لواشنطن الاعتماد عليه. كذلك يسعى الرئيس المصري إلى تغيير صورته التي كرستها الممارسات القمعية على مدى سبع سنوات، ومن ضمنها واقعة خطف وقتل الطالب الإيطالي جوليو ريجيني، وبالتالي فإن خطوة مثل إلغاء حالة الطوارئ مُعوَّل عليها لتخفيف تلك الملاحظات السلبية، أو على الأقل إشعار الغرب بأن نظامه قد تخطى مرحلة القمع وأنه بالفعل في طور التغير ويمكن الاعتماد عليه ودعمه في مختلف الملفات، خصوصاً تلك المتعلقة بالمجال العام، ولا سيما ملف تمويل العمل الأهلي بصورته الجديدة التي تسيطر عليها جمعيات موالية للدولة، وتمويل استضافة المهاجرين، وتقديم المزيد من المساعدات المالية للمشروعات الحكومية التنموية بدلاً من توجيهها للمجتمع المدني.
صانع القرار المصري يحاول انتزاع رضا واشنطن وباقي العواصم الغربية الرئيسية
تغيير وحيد
كما تدعم طبيعة القرار الموجهة للخارج حقيقة أنه لن يطرأ أي تغيير على أداء الحكومة أو الجيش أو الشرطة تبعاً لذلك، وسينحصر التغيير الوحيد على القضاء، حيث توقفت النيابة العامة (من النيابات الكلية إلى نيابة أمن الدولة العليا) عن إحالة القضايا الجديدة والقضايا التي ما زالت محل تحقيق، إلى محاكم أمن الدولة طوارئ (الجزئية والعليا)، بما يعني إحالة تلك القضايا إلى المحاكم العادية. والفارق بين الاثنين ليس في شخص القضاة، فمن الممكن أن تنظر دائرة واحدة قضية كمحكمة عادية، وتنظر قضية أخرى كمحكمة أمن دولة طوارئ، لكن الفارق الرئيس أن الأحكام التي تصدر عن دوائر الطوارئ تكون نهائية ولا يجوز الطعن عليها، ويجب على رئيس الجمهورية أو من يفوّضه التصديق على الأحكام، ويجوز له أن يعيد القضية لإعادة المحاكمة مرة أخرى. وترتبط طبيعة هذه المحاكم التي ستبقى قائمة لنظر القضايا المنظورة أمامها أو التي أحيلت إليها بالفعل، بعدة تطورات اتخذتها النيابة العامة بإيعاز من النظام خلال الفترة القصيرة الماضية، يمكن الآن قراءتها بشكل أوضح بعد إنهاء حالة الطوارئ.
وبينما كانت دوائر سياسية وحقوقية تبشر منذ شهر تقريباً بقرب الإفراج عن مجموعة محدودة من المعتقلين السياسيين المحكوم عليهم بأحكام جنائية وعسكرية بصحبة السجناء العاديين الذين تنطبق عليهم شروط العفو الرئاسي الأخير بمناسبة ذكرى نصر أكتوبر/تشرين الأول 1973 (الأمر الذي لم يتحقق) دشنت النيابة العامة ظاهرة جديدة رصدتها "العربي الجديد" مبكراً في يوليو/تموز الماضي (أي قبيل قرار المد الأخير للطوارئ) بالإحالة السريعة للمعتقلين السياسيين الذين يثار بشأنهم اهتمام غربي ومطالبات بالإفراج، إلى محاكمات في قضايا وهمية جديدة أو في القضايا التي اعتقلوا بسببها، لتقنين استمرار اعتقالهم دون الدخول في حسابات قانونية معقدة، ارتباطاً بانتهاء فترة الحبس الاحتياطي المقرر حدها الأقصى بعامين في قانون الإجراءات الجنائية. وتمت هذه الظاهرة بتدوير المعتقلين بإحالتهم سريعاً لمحكمة أمن الدولة العليا (للجنايات) باعتبار أن وقائع القضايا المنسوبة لهم قد وقعت في ظل حالة الطوارئ، وليس بمجرد حبسهم في قضايا جديدة، فهي تركز على استغلال الثغرات القانونية وافتعال احترام أحكام القضاء التي تدار فعلياً عن بُعد بأوامر الأجهزة الأمنية.
بدأت هذه الظاهرة مع ثلاثة من المعتقلين في قضية "خلية الأمل"، منهم زياد العليمي وهشام فؤاد وحسام مؤنس، على ذمة قضية جديدة مجهولة الحيثيات، وجهت لهم فيها اتهامات بتكدير السلم العام ونشر أخبار كاذبة من خلال مجموعة من المنشورات التي تعود لسنوات سابقة على مواقع التواصل الاجتماعي، بهدف ضمان استمرار حبسهم بعد انتهاء فترة الحبس الاحتياطي القصوى لهم على ذمة قضية "الأمل". ثم تكرر الأمر مع رئيس حزب "مصر القوية" عبد المنعم أبو الفتوح الذي أحيل الشهر الماضي إلى المحاكمة على ذمة القضية 440 لسنة 2018 المتهم فيها عدد من قادة جماعة "الإخوان المسلمين"، على رأسهم إبراهيم منير المقيم في الخارج، ومحمود عزت المعتقل منذ عام، ولم يتم تحديد جلسة لها حتى الآن.
ثم تكرر مع الناشط السياسي علاء عبد الفتاح، والمحامي الحقوقي المحبوس منذ أكثر من عامين محمد الباقر، والناشط السياسي محمد أكسجين، والخبير الاقتصادي يحيى حسين عبد الهادي الذي كان قد أكمل عامين في الحبس الاحتياطي على ذمة القضية الأصلية المتهم فيها بحلول مارس/آذار الماضي، وفي الأسابيع الأخيرة فوجئ بتوجيه اتهامات جديدة له في القضية 1356 لسنة 2019 المتهم فيها مجموعة من النشطاء السياسيين الذين لا يجمعهم شيء إلا معارضة النظام. فضلاً عن التوسع في الإحالة السريعة للمعتقلين من جماعة "الإخوان" والفرادى غير المنتمين لتيارات سياسية معينة، كما حدث سلفاً مع الباحث باتريك جورج الذي ما زال قيد المحاكمة أمام محكمة أمن الدولة طوارئ في المنصورة، والباحث اليساري أحمد سمير سنطاوي الذي تم اعتقاله منذ بضعة أشهر وبدلاً من إخلاء سبيله أحيل إلى محاكمة سريعة أمام محكمة أمن الدولة للجنح نتج عنها الحكم عليه بالسجن 4 سنوات بسبب منشورات قديمة على مواقع التواصل الاجتماعي مع عدم تحريك القضية الأصلية التي اعتقل على أساسها. ووفقاً لقانون الطوارئ، فإن جميع هذه القضايا المنظورة حالياً، ستظل منظورة أمام محاكم أمن الدولة، بما في ذلك قضية أبو الفتوح التي لم تبدأ جلساتها بعد، لتصدر فيها جميعاً أحكام غير قابلة للطعن، كما يحدث في ظل حالة الطوارئ، وكأن تغييراً لم يحدث.
وبذلك يكون النظام قد ضمن استمرار التنكيل بمعظم القيادات والنشطاء المعارضين غير المرحب بخروجهم إلى الحياة العامة، فضلاً عن إبقائهم كأوراق مساومة يمكنه التلاعب بها مع الضغوط الغربية. أما القضايا التي ما زالت قيد التحقيق في النيابة العامة أو التي ستقدم لاحقاً، فسوف تحال جميعاً إلى المحاكم الجنائية العادية، والتي لم تعد أفضل حالاً من محاكم أمن الدولة بعد السيطرة التنفيذية المطلقة على مرفق القضاء والتحكم الأمني في اختيار رؤساء الهيئات والدوائر، لكن ما يستفيد منه المتهم هو إمكانية الطعن على أحكامها حتى مرحلة النقض.
طوارئ سيناء
قرار تفويض وزير الدفاع بفرض تدابير استثنائية يحوّل شبه جزيرة سيناء بالكامل إلى منطقة أقرب للطبيعة العسكرية
وبالنسبة لسيناء، فقبل ثلاثة أسابيع فقط من إعلان السيسي إنهاء حالة الطوارئ، أصدر قراراً بتفويض وزير الدفاع الفريق أول محمد زكي في فرض عشرة تدابير استثنائية، وقتما يشاء بناء على توجيهات السيسي نفسه، على مستوى جميع مناطق شبه جزيرة سيناء، وليس فقط شمال شرقها الذي يشهد ذروة المعارك الدائرة مع العناصر الإرهابية، بل وسيطرتهم على بعض المناطق العصية حتى الآن على تحكم الجيش. وبعيداً عن حالة الطوارئ، وسواء ستعود لاحقاً أم لاً، فإن القرار يحوّل شبه الجزيرة بالكامل إلى منطقة أقرب للطبيعة العسكرية، من الناحية القانونية والواقعية. فوزير الدفاع أصبح بمثابة الحاكم الأعلى لها، وله من السلطات والصلاحيات ما يفوق رئيس الوزراء والمحافظين. كما سيترتب على تلك التدابير آثار أخرى مثل تطبيق قانون حماية المنشآت العامة والحيوية في جميع تلك المناطق، مما يسمح بإحالة المدنيين المخالفين للتعليمات للمحاكمات العسكرية بعيداً عن قاضيهم الطبيعي، إلى جانب تحصين القرارات الصادرة بتلك التدابير من رقابة القضاء.
ويملك وزير الدفاع بموجب هذا القرار -في غير حالة الطوارئ- سلطة اتخاذ تدابير تعادل ما يُتخذ في ظل هذه الحالة.
وبذلك، فلا وجاهة في ادعاء بعض الإعلاميين الموالين للنظام أن إنهاء حالة الطوارئ سيشمل سيناء، فقرار السيسي الأخير يجعل سيناء في "طوارئ فعلية" إلى أجل غير مسمى ومن دون أن تتطلب موافقة البرلمان، وليس كما في حالة الطوارئ العادية التي تفرض بشكل مؤقت ويُشترط لها موافقة البرلمان. وعلى مدار سبع سنوات اكتظ العمل التشريعي المصري بالعديد من القوانين الجديدة التي تحقق للنظام الأهداف الخاصة بنظام الطوارئ، من دون الاحتياج لإعلان حالة الطوارئ من الأساس، على رأسها قانون مكافحة الإرهاب الذي أصدره السيسي في أغسطس/آب 2015. ومفتاح الطوارئ في هذا القانون يكمن في المادة 53 التي تنص على أنه "لرئيس الجمهورية متى قام خطر من أخطار الجرائم الإرهابية أو ترتب عليه كوارث بيئية، أن يصدر قراراً باتخاذ التدابير المناسبة للمحافظة على الأمن والنظام العام، بما في ذلك إخلاء بعض المناطق أو عزلها أو حظر التجول فيها، على أن يتضمن القرار تحديد المنطقة المطبق عليها لمدة لا تتجاوز 6 أشهر"، أي أنها تطلق يده في تحديد التدابير المناسب اتخاذها، من دون تحديدها حصراً، بما يشمل فرض حظر التجول وغيره.
ومثل الطوارئ تقريباً، تنص هذه المادة على عرض هذا القرار على مجلس النواب خلال الأيام السبعة التالية ليقرر ما يراه بشأنه، فإذا كان المجلس في غير دور الانعقاد العادي وجبت دعوته للانعقاد فوراً، وإذا كان المجلس غير قائم وجب أخذ موافقة مجلس الوزراء، على أن يعرض على مجلس النواب الجديد في أول اجتماع له، ويصدر القرار بموافقة أغلبية عدد أعضاء المجلس، فإذا لم يعرض القرار في الميعاد المشار إليه، أو عرض ولم يقره المجلس اعتُبر القرار كأن لم يكن ما لم يرَ المجلس خلاف ذلك. وتسمح هذا المادة لرئيس الجمهورية بأن يمد مدة تلك التدابير بعد موافقة أغلبية أعضاء مجلس النواب، وإن كتابة خلال 8 أيام، وهو ما يعتبر فرضاً لحالة الطوارئ، في أشد صورها تعسفاً، ويجعلها مستمرة.
ويرى حقوقيون أن ما يزيد الأمر سوءاً مع هذا القانون أن يتجاور مع غيره من القوانين سيئة السمعة، مثل قانون التظاهر، والسماح بمد الحبس الاحتياطي لأكثر من عامين، وعقد المحاكمات في معهد أمناء الشرطة ومعسكرات الأمن المركزي، وقانون الكيانات الإرهابية الذي يتيح التحفظ على الأموال ومنع المتهمين من السفر لمدد تصل إلى خمس سنوات، لتصبح حياة المواطنين المصريين، الأبرياء والممارسين للعنف والإرهاب على حد سواء، رهينة إجراءات استثنائية جائرة تضرب قيم العدالة وتخل بالمحاكمات المنصفة. ويرى الحقوقيون أن هذا القانون يتعارض مع المادة 237 من الدستور التي تنص على أنه "تلتزم الدولة بمواجهة الإرهاب، بكافة صوره وأشكاله، وتعقب مصادر تمويله، وفق برنامج زمني محدد، باعتباره تهديداً للوطن والمواطنين، مع ضمان الحقوق والحريات العامة. وينظم القانون أحكام وإجراءات مكافحة الإرهاب والتعويض العادل عن الأضرار الناجمة عنه وبسببه".