بدأ الملف النووي الإيراني العائد إلى صدارة الملفات الدولية يدخل مرحلة حساسة، فمن جهة تراوغ طهران في الإعلان عن موعد لعودتها إلى طاولة التفاوض في فيينا، ومن جهة أخرى، باتت التحذيرات الأميركية من تأخير استئناف المفاوضات المتعثرة منذ انتخاب إبراهيم رئيسي رئيساً لإيران الأكثر حزماً، مشفوعة بالتلويح بالتوجه نحو "خيارات أخرى"، مع التأكيد أنها لن تنتظر طويلاً لتتخذ طهران قراراً بالعودة إلى مفاوضات فيينا.
وتشكك طهران في جدية الإدارة الأميركية في عودتها إلى الاتفاق، مع حديثها عن اقتراب مشاوراتها الداخلية من نهايتها وعودتها القريبة إلى المفاوضات.
وكثفت إسرائيل تحركاتها ومباحثاتها مع الإدارة الأميركية لدفعها نحو اتخاذ موقف أكثر صرامة تجاه البرنامج النووي الإيراني، مع تصعيد تهديداتها والتلويح باستخدام القوة لوقف تقدم هذا البرنامج، وهو ما استدعى رداً إيرانياً على هذه التهديدات بطرق مختلفة، من خلال إرسال مندوبها الدائم في الأمم المتحدة مجيد تخت روانجي رسالة تحذيرية إلى مجلس الأمن الدولي، أمس الخميس، من أي مغامرات عسكرية إسرائيلية ضد بلاده وتأكيد احتفاظها بحقها في الدفاع عن نفسها بشكل "حازم وقوي".
وحذرت طهران تل أبيب من تنفيذ تهديداتها و"الخطأ في الحسابات"، مع دعوة مجلس الأمن إلى تحمل مسؤولياته ومحاسبة إسرائيل والتشديد على "سلمية" البرنامج النووي الإيراني، من خلال إجراء قوات الدفاع الجوي الإيراني، في الجيش والحرس الثوري، أضخم مناورة للدفاع الجوي، يومي الثلاثاء والأربعاء الماضيين، هدفها الأساسي، وفق القائمين عليها، هو القيام بتدريبات للدفاع عن "المنشآت الحساسة والحيوية"، واللافت أنه تمت فيها محاكاة تعرض البلاد لحرب محتملة، ما يشير إلى أخذ إيران التهديدات الإسرائيلية على محمل الجد.
وفي خضم هذه التطورات المتسارعة، أوفدت مفوضية السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، أمس الخميس، نائب رئيسها إنريكي مورا، الذي يترأس اجتماعات اللجنة المشتركة للاتفاق النووي في فيينا في إطار المفاوضات، إلى طهران، للتباحث مع علي باقري، نائب وزير الخارجية الإيراني، المتشدد في الموقف من الاتفاق النووي، وقد حث الإيرانيين على العودة السريعة للاتفاق النووي منعاً لتدهور الأوضاع، وللحيلولة دون تعقيدها أكثر، الأمر الذي من شأنه أن يضيق فرص إحياء الاتفاق النووي.
وتزامنت زيارة مورا مع زيارة أخرى لمفوض السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي إلى واشنطن جوزيب بوريل، شكّل الاتفاق النووي أحد عناوينها المهمة.
وكانت الترويكا الأوروبية (فرنسا وبريطانيا وألمانيا) الشريكة في الاتفاق النووي، قد أكدت، في بيان، أهمية زيارة مورا لطهران، لتقول إنها تأتي في "مرحلة حساسة" في ظل الجهود التي تبذل لاستئناف مفاوضات فيينا، و"إنها ليست زيارة عادية".
بوريل: إيران تريد الاجتماع مع مسؤولين أوروبيين في بروكسل حول الاتفاق النووي
وقال بوريل، اليوم الجمعة، إنّ إيران تريد عقد اجتماع في بروكسل مع مسؤولي الاتحاد الذين ينسقون المحادثات غير المباشرة بين الولايات المتحدة وإيران، إضافة إلى بعض الأطراف الأخرى في الاتفاق النووي المبرم عام 2015.
وأعرب بوريل، أمام الصحافيين في واشنطن، عن استعداده لاستقبال الإيرانيين، لكنه قال إنه لا يستطيع تحديد موعد عقد الاجتماع.
وفي رد على سؤال بشأن ما إذا كان الإيرانيون يرغبون في مناقشة مسودات النصوص، مثل ما حدث عندما عقدت المحادثات الأخيرة في فيينا في يونيو/ حزيران، ومن هم الأعضاء الإضافيون الذين يرغبون في الاجتماع معهم، ردّ بوريل قائلاً "يؤسفني القول إنني لا أعرف".
تفاصيل مباحثات المفاوض الأوروبي في طهران
وكشفت مصادر إيرانية مطلعة، لـ"العربي الجديد"، أنّ زيارة مورا إلى إيران لم تحقق هدفها المنشود أوروبياً في التوصل مع إيران إلى موعد محدد لاستئناف مفاوضات فيينا، مضيفة أنّ المسؤول الأوروبي "لم يحمل معه إجابات مقنعة عن تساؤلات وتحفظات الجمهورية الإسلامية" حول الجولات السابقة والسياسة الأميركية والأوروبية خلالها.
وأوضحت المصادر، التي رفضت الكشف عن هويتها، أنّ المباحثات الأوروبية الإيرانية خلال زيارة مورا تركزت بشكل أساسي حول الاتفاق النووي ومفاوضات فيينا، ما استحوذ على "أكثر من 90% من المباحثات"، مشيرة إلى إجراء نقاشات مفصلة بهذا الشأن مع المسؤول الأوروبي.
إيران أكدت للضيف الأوروبي "جديتها وقرارها بالعودة الحتمية" إلى مفاوضات فيينا "من دون تحديد موعد"، حسب هذه المصادر، التي أشارت إلى أنّ الخارجية الإيرانية، في الوقت ذاته، أبلغته بـ"جملة ملاحظات وتحفظات".
وكانت التحفظات حول نقطتين أساسيتين، حسب ما قالت المصادر لـ"العربي الجديد"؛ الأولى بشأن المسار الذي سلكته المفاوضات خلال الجولات الست الماضية والتوجه الأميركي فيها، والنقطة الثانية حول سلوك الإدارة الأميركية الراهنة والأطراف الأوروبية تجاه الاتفاق النووي منذ تسلم الرئيس جو بايدن السلطة خلال يناير/كانون الثاني الماضي.
وبشأن مسار المفاوضات، أبلغ المفاوض الإيراني علي باقري ضيفه الأوروبي بـ"أربع ملاحظات أساسية"، كما تقول المصادر، التي لفتت إلى أنها "ارتبطت في الأساس بالخلافات التي أوصلت مفاوضات فيينا إلى طريق مسدود"، وقالت إنّ باقري تحدث لمورا عن "امتعاض إيراني شديد من السلوك الأوروبي منذ انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي (عام 2018) وخلال مفاوضات فيينا".
الملاحظة الأولى تتصل بـ"الموقف الأميركي من إلغاء العقوبات وعدم التعهد برفعها جميعها، حيث لم يوافق الجانب الأميركي على رفع جميع العقوبات كمّاً وكيفاً، والتي فرضت تحت عدة تسميات، فأكدت خلال المفاوضات السابقة رفعها جميع العقوبات المنصوص عليها في الاتفاق النووي، لكن المشكلة أنّ جزءاً أساسياً من هذه العقوبات مفروضة تحت عناوين أخرى".
ولفتت المصادر إلى أنّ الإدارة الأميركية أعلنت خلال المفاوضات السابقة عن موافقتها على "تعليق" بعض هذه العقوبات التي فرضت تحت عنوان "مكافحة الإرهاب"، لكن هذا ما ترفضه طهران وتطالب برفعها وليس تعليقها. وفي السياق أيضاً، أكدت إيران للمفاوض الأوروبي إنريكي مورا تشكيكها بـنية إدارة بايدن رفع العقوبات بشكل مؤثر وفاعل.
وعن الملاحظة الثانية التي أبدتها إيران للمسؤول الأوروبي، قالت المصادر لـ"العربي الجديد" إنها "أهم الملاحظات، وترتبط بشرط إيران التحقق من رفع العقوبات قبل العودة إلى التزاماتها"، مشيرة إلى أنّ "هذه عقدة أساسية في المفاوضات التي لم تتوصل إلى حل يحقق الشرط الإيراني بسبب الرفض الأميركي".
والملاحظة الثالثة أنّ إيران تصرّ على "ضرورة الحصول على ضمانات وتعهدات أميركية بعدم النكث لاحقاً بما سيتم الاتفاق عليه في فيينا، وهو ما لم يحصل خلال الجولات السابقة"، حسب المصادر التي قالت إنّ الملاحظة الرابعة تمثلت في ربط أميركا الاتفاق في فيينا بالتفاوض لاحقاً حول قضايا أخرى، مثل برنامجها الصاروخي وسياستها الإقليمية "فأبلغ السيد باقري المسؤول الأوروبي مورا رفض إيران القاطع لذلك"، فضلاً عن التأكيد على رفض "أي تغيير ببنود الاتفاق النووي، في ما يتعلق بالجداول الزمنية للقيود على البرنامج النووي".
وكشفت المصادر الإيرانية، لـ"العربي الجديد"، عن أنّ إيران تسعى من خلال طرح هذه الملاحظات إلى "وضع أجندة جديدة على طاولة المفاوضات بعد استئنافها، ما يجعل من الصعب استئناف المفاوضات من النقطة التي توقفت عندها، ويستدعي ذلك إعادة النظر في اتفاقات جزئية قد حصلت سابقاً".
وأشارت إلى أنّ الجانب الإيراني أكد أنه "لم تصدر أي مؤشرات من الإدارة الأميركية، خلال الفترة الماضية، تنم عن حسن نية أميركية ورغبة بالتوصل إلى حل، ولم تنفذ وعودها عبر الوسطاء بالإفراج عن أرصدة إيرانية مجمدة".
وعلى الرغم من أنّ المباحثات مع مورا في طهران "اتسمت بالوضوح والإيجابية، لكنها لم تصل إلى نتائج واضحة بشأن تحديد موعد لاستئناف المفاوضات من جهة، وحصول إيران على إجابات وإيضاحات واضحة عن تساؤلاتها من جهة أخرى"، بحسب المصادر، وهو ما دفع إلى مواصلة المباحثات خلال الأسبوعين المقبلين، في بروكسل، بين نائب وزير الخارجية الإيراني ومفوض الاتحاد الأوروبي إلى مفاوضات فيينا، كما تحدث عن ذلك وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان في محادثة هاتفية مع نظيره الروسي سيرغي لافروف، أمس الخميس، بعد مباحثات مورا مع الخارجية الإيرانية.
استمرار المشاورات الداخلية في إيران بشأن العودة إلى مفاوضات النووي
وتزامناً مع هذه الرسائل التي تضغط بها طهران على أطراف مفاوضات فيينا لتحصيل تنازلات في الموقف قبل استئنافها، ما زالت المشاورات الإيرانية الداخلية مستمرة بشأن رسم استراتيجة تفاوضية جديدة قبل العودة إلى المفاوضات، حسب ما كشفت مصادر إيرانية مطلعة لـ"العربي الجديد".
وأضافت المصادر أنّ "فريق عمل، بحضور رؤساء السلطات الإيرانية الثلاث وشخصيات سياسية، يعمل على إعداد الاستراتيجية الجديدة لخوض المفاوضات"، مشيرة إلى أنّ الأدميرال علي شمخاني، أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، يقود هذا الفريق، وهو عقد حتى اليوم 7 جلسات.
وناقش الفريق في هذه الاجتماعات تفاصيل المباحثات النووية السابقة و"أفكاراً عدة لتبني استراتيجية جديدة، لكنه لم يتوصل بعد إلى نتيجة نهائية"، حسب المصادر، التي أوضحت أنّ "أهم مبادرة يناقشها الفريق، والتي تشكل الركيزة الاستراتيجية، هو ما طرحه رئيس مجلس الشورى الإسلامي محمد باقر قاليباف".
وبشأن مضمون المبادرة، اكتفت المصادر بالقول إنه "يرتكز على فكرة التفاوض الجيد للوصول إلى اتفاق جيد"، مرجحة أن تُستأنف مفاوضات فيينا أواخر الشهر الجاري أو مطلع نوفمبر/تشرين الثاني، "بالنظر إلى اقتراب المشاورات الداخلية في إيران إلى نهاياتها".
لكن تأخير إيران العودة إلى مفاوضات فيينا يعود بالأساس إلى استراتيجية جديدة تتبعها البلاد في السياسة الخارجية بشكل عام، وخاصة في التعاطي مع الاتفاق النووي، حيث قال عضو لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني فدا حسين مالكي لـ"العربي الجديد"، في وقت سابق، إنّ الاتفاق "لا يشكل الأولوية الأولى للحكومة الإيرانية الجديدة"، مشيراً، في حديثه مع "العربي الجديد"، إلى أنّ "الاتفاق النووي ليس إلا مجرد ملف، وبعد تقييماتنا، سيستمر التفاوض بشأنه شريطة ألا تعاود أميركا نكث العهود".
وفسّر الخبير الإيراني المتابع للعلاقات الإيرانية الأميركية، في وقت سابق، لـ"العربي الجديد"، أسباباً أخرى حول المراوغة الإيرانية بشأن موعد استئناف مفاوضات فيينا، حيث تحدث عن سعي طهران لتحسين شروط التفاوض عبر "تحسين أوراقها النووية"، وقال إنّ "إيران، حتى إطلاق المفاوضات، ستكون قد قامت بتحسين أوراقها النووية من جهة، وتوصلت إلى أجندة جديدة لفريقها التفاوضي الجديد، أو أعدت خطة بديلة بإجماع داخلي، من جهة ثانية".