جملة تطورات بدأت تعيد البرنامج النووي الإيراني إلى واجهة التطورات الدولية من أوسع الأبواب، فمن شأنها أن تفرض الملف مرة أخرى كأولوية قصوى على المجتمع الدولي والإدارة الأميركية الجديدة المضغوطة بأولوياتها الخاصة. أهم تلك التطورات هو احتدام أزمة الاتفاق النووي والموقف من تنفيذه بين طهران وواشنطن وطرح شروط متبادلة وإصرار كل طرف على أن يتنازل الآخر ويتخذ الخطوة الأولى، فضلا عن انتشار تقارير غربية عن أنشطة نووية إيرانية غير معلنة، والزعم بأن مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية عثروا على أدلّة جديدة على هذه الأنشطة، حسبما جاء في تقرير لصحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية، الجمعة الماضي، نقلاً عن ثلاثة دبلوماسيين، قائلة إن عينات تم أخذها خلال الخريف من موقعين خلال عمليات التفتيش احتوت على آثار لمواد مشعة، ما يمكن أن يؤشر إلى أن إيران شرعت بعمل في مجال الأسلحة النووية.
وعلى الضفة الإيرانية أيضا، تبدو التطورات النووية متسارعة، فقد صعّدت طهران أخيرا خطواتها النووية، وتتوعد بالمزيد خلال المرحلة المقبلة، بالإضافة إلى تلويح وزير الاستخبارات الإيراني محمود علوي، في تصريحات للتلفزيون الإيراني، بالتوجه إلى الأسلحة النووية إذا استمرت الضغوط على بلاده، وذلك بعد تأكيده على سلمية الصناعة النووية الإيرانية، وقوله إن فتوى المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي بحظر إنتاج الأسلحة النووية "شرعا"، ما زال ساريا، لكنه في الوقت ذاته حذر الغرب قائلا إنه "إذا تم حشر قط في زاوية فيمكن أن يظهر منه سلوك لا يظهر من قط حرّ"، ليؤكد أنه "إذا دفعوا إيران إلى تلك الاتجاهات (الأسلحة النووية) فإيران ليست هي المقصرة بل التقصير يقع على عاتق من دفعها إلى ذلك الاتجاه".
اليورانيوم المعدني
آخر الخطوات النووية الإيرانية حتى اللحظة، والتي تتعارض مع تعهداتها النووية المنصوص عليها في الاتفاق النووي، هو بدء عملية إنتاج اليوارنيوم المعدني، وفق المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل غروسي، الذي قال أمس، الأربعاء، في بيان، إن طهران أنتجت كمية صغيرة من هذا الصنف من اليورانيوم تبلغ 3.6 غرامات في 8 فبراير/شباط الجاري، في منشأة نووية تخضع لتفتيش الوكالة الدولية في مدينة أصفهان.
كما قالت الوكالة الدولية للطاقة الذرية، أمس الأربعاء، إن إيران شرعت في إنتاج اليورانيوم المعدني في انتهاك للاتفاق النووي، مشيرة إلى أن معدن اليورانيوم يعتبر مادة أساسية في صناعة الأسلحة النووية.
غير أن إيران من جهتها، لم تعلق بعد على تصريحات الوكالة حول شروعها في إنتاج اليورانيوم المعدني، والذي أثار مخاوف الأطراف الغربية، لكنها يوم 13 يناير/كانون الثاني كشفت، على لسان سفيرها الدائم لدى الوكالة الدولية للطاقة الذرية في فييناكاظم غريب أبادي، عن إطلاقها أنشطة بحث وتطوير لتصميم وقود متطور لمفاعل طهران للأبحاث النووية، مضيفا أن تصميم هذا الوقود "يتم على ثلاث مراحل، حيث سينتج في المرحلة الأولى اليورانيوم المعدني من خلال استخدام اليورانيوم الطبيعي".
وأضاف غريب أبادي، حينها، أن طهران أبلغت الوكالة الدولية للطاقة الذرية بالأمر منذ عامين، لكن الخطوة لقيت تحذيرا واعتراضا شديدين من الدول الأوروبية الثلاث الشريكة في الصفقة النووية، أي فرنسا وبريطانيا وألمانيا، فحذرت إيران من بدء العمل على إنتاج وقود يعتمد على معدن اليورانيوم من أجل مفاعل أبحاث، وقالت إنّ ذلك يتعارض مع الاتفاق النووي المبرم عام 2015، مؤكدة أنه "ليست له مناح مدنية وينطوي على جوانب عسكرية خطيرة".
وتنص المادة 26 في الملحق الأول لخطة العمل الشاملة المشتركة (الاتفاق النووي)، المبرمة عام 2015، على أنه "إذا أرادت إيران البدء بالبحث والتطوير بشأن الوقود على أساس معدن اليورانيوم لأجل مفاعل طهران البحثي في كمية قليلة، وذلك بعد عشر سنوات وأقل من 15 سنة، فتعرض برنامجها في اللجنة المشتركة وتتابع إقرارها في اللجنة".
حينها، ردّت هيئة الطاقة الذرية الإيرانية على البيان الأوروبي، بالحديث عن "سوء فهم" لدى هذه الدول، موضحة أن "اليورانيوم المعدني المستخدم في عملية إنتاج الوقود المتطور (silicide) هو منتج وسيط، إذ خلال عملية الإنتاج المستمرة في هذه المرحلة ينتج الوقود المتطور على الفور"، وأشارت الهيئة إلى أن هذا الأمر منفصل عن إنشاء مصنع لإنتاج اليورانيوم، كما توعدت طهران بتأسيسه خلال الأشهر المقبلة في حال لم ترفع العقوبات.
عينات تم أخذها خلال الخريف من موقعين خلال عمليات التفتيش احتوت على آثار لمواد مشعة، ما يمكن أن يؤشر إلى أن إيران شرعت بعمل في مجال الأسلحة النووية
لكن رغم حديث إيران عن وجود "سوء فهم"، قبل شهر، وتأكيد الوكالة الدولية للطاقة الذرية، أمس الأربعاء، شروعها في إنتاج اليورانيوم المعدني، فهي تتجه عمليا في مستقبل قريب نحو إنشاء مصنع خاص لإنتاج معدن اليورانيوم خلال الأشهر الأربعة المقبلة في حال عدم إلغاء العقوبات، إذ يلزم القانون الذي أقره البرلمان الإيراني، مطلع ديسمبر/كانون الأول الماضي، بعنوان "الإجراء الاستراتيجي لإلغاء العقوبات"، بـ"تدشين مصنع إنتاج اليورانيوم المعدني في أصفهان في غضون 5 أشهر من إقرار القانون"، أي خلال يونيو/ حزيران المقبل.
استخدامات اليورانيوم المعدني
اليورانيوم المعدني له استخدامات متعددة، أهمها في إنتاج الرؤوس النووية للصواريخ، كما يقول الخبير النووي الإيراني البارز حسن بهشتي بور، لـ"العربي الجديد"، مضيفا أن "الإعلام الغربي يركز على هذا الشكل من الاستخدام، ويزعم أن إيران تتابع أهدافا عسكرية من خلال ذلك"، أي إنتاج اليورانيوم المعدني.
غير أن بهشتي بور ينفي وجود هذا التوجه لدى إيران، قائلا إنها بدأت عملية البحث والتطوير لإنتاج معدن اليورانيوم تحت إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وأضاف أنها "لو كانت لديها أهداف غير سلمية لما شرعت بالخطوة تحت رقابة الوكالة".
وعن أهمية الخطوة، يوضح الخبير النووي الإيراني أن إيران "تسعى إلى إنتاج وقود أكثر تطورا وبجودة وفاعلية أعلى لمفاعل طهران البحثي"، مشيرا إلى أن تحصيل هذا الوقود يحتاج إلى استخدام اليورانيوم المعدني في عملية الإنتاج "لكن بعد تركيبه مع مواد أخرى يُدمج ولن يبقى كمعدن اليورانيوم".
وتقول الحكومة الإيرانية إن مفاعل طهران له "استخدامات طبية"، مشيرة إلى أنه "ينتج أدوية مشعة لمعالجة مرضى السرطان".
وفي السياق، أضاف بهشتي بور، لـ"العربي الجديد"، أن "اليورانيوم المعدني أيضا له استخدامات كثيرة في الصناعات المدنية"، مشيرا إلى استخدامه "في إنتاج سترة واقعية من الأشعة في مراكز التصوير بأشعة إكس، كما أن المرضى يلبسون هذه السترات الخفيفة بدلا من السترات الرصاصية الثقيلة ضد هذه الأشعة". لكن الخبير الإيراني أكد أن طهران تحاول من خلال هذه الخطوات أيضا "تحقيق الاكتفاء الذاتي في جميع الأبعاد السلمية".
من جهته، أكد المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية سعيد خطيب زادة، يوم 19 يناير/كانون الثاني، في مؤتمره الصحافي، أن بلاده تستخدم اليورانيوم المعدني لـ"احتياجات سلمية"، مضيفا أن هذا اليورانيوم "له استخدامات سلمية أيضا، وبعض الدول تستخدم الوقود المنتج من معدن اليورانيوم في مفاعلها، وهذا لا يتعارض مع معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية".
وقال خطيب زادة إن بلاده "ملزمة باستخدام هذه التقنية لرفع احتياجات مرضاها إلى أدوية مشعة ذات جودة عالية".
دلالات الخطوة
بغض النظر عن تأكيدات إيران أنها بحاجة إلى معدن اليورانيوم لـ"استخدامات مدنية طبية"، لكن مجرد القيام بهذه الخطوة في هذا التوقيت الزمني الذي يشهد توترا متصاعدا بين طهران والغرب على خلفية الموقف من تنفيذ الاتفاق النووي، يكتسي أهمية كبيرة ولها دلالات مهمة، لكون معدن اليورانيوم له استخدامات مزدوجة، فمن هنا يبدو أن إيران تسعى إلى زيادة وتيرة الضغط على الإدارة الأميركية الجديدة والأطراف الأوروبية لـ"إجبارها على العودة إلى تعهداتها بالكامل وإلغاء العقوبات الأميركية"، كما يقول المحلل السياسي الإيراني محمد مرندي لـ"العربي الجديد".
ويضيف مرندي أن "رسالة إيران للغرب هي التأكيد على أنه كفى الالتزام بالاتفاق النووي من جانب واحد"، مشيرا إلى أن بلاده تعمل وفق معادلة "إذا لم تنفذوا الاتفاق النووي فنحن أيضا لن نلتزم به".
الخطوات الإيرانية الأخيرة تؤكد أن طهران "تخطط لتطوير شامل لبرنامجها النووي"، حسب المحلل السياسي الإيراني، الذي أضاف أن "كرة الاتفاق النووي في ملعب أميركا وأوروبا، والأمر يتوقف على تصرفاتهم، فاذا عادوا إلى تنفيذ جميع تعهداتهم إيران أيضا ستعود إلى التزاماتها، لكن في حال لم يتم ذلك فهي ستواصل تطوير البرنامج النووي".
إلى ذلك، يوضح القانون الذي أقره البرلمان الإيراني لاتخاذ خطوات نووية من ضمنها إنشاء مصنع خاص لإنتاج اليورانيوم المعدني خلال يونيو/حزيران المقبل، دلالات هذه الخطوات أكثر، فحينئذ الأمر لا يقتصر على إنتاج منتج وسيط لصناعة الوقود المتطور لمفاعل طهران البحثي، بل الحديث هو عن إنشاء مصنع خصيصا لإنتاج اليورانيوم المعدني، الأمر الذي سيثير مخاوف الغرب أكثر حينها.
والقانون كما يوضح عنوانه "الإجراء الاستراتيجي لإلغاء العقوبات الأميركية"، يشير إلى هذه الخطوات على أنها "استراتيجية" لإرغام الأطراف الأميركية والأوروبية لرفع العقوبات عن إيران، غير أن ما صدر عن الإدارة الأميركية الجديدة حتى اليوم لا يشي بوجود رغبة أميركية في التجاوب مع مدلولات الخطوات الإيرانية، على عكس التوقعات التي قاد إليها فوز جو بايدن بالرئاسة الأميركية لعودة واشنطن إلى الاتفاق النووي وتبني مقاربة مختلفة عن سلفه تجاه طهران.
كما أن تصعيد إيران خطواتها مع مجيء بايدن وزيادة الوتيرة خلال الفترة الأخيرة يؤكد وجود خيبة أمل إيرانية من سياساته المحتملة تجاهها، ولذلك تسعى إلى زيادة جرعة الضغوط عسى أن تجبر الرئيس الأميركي الجديد على اتخاذ خطوات عملية باتجاه إلغاء العقوبات في ظل انشغاله بأولويات أكثر أهمية بالنسبة إليه.