كشفت مصادر دبلوماسية مصرية أنّ الاتصال الأخير بين رئيس الوزراء الإيطالي جوزيبي كونتي والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في العشرين من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي، تضمن إخطار القاهرة رسمياً بقرب تحريك دعوى غيابية ضد الضباط الخمسة المشتبه منذ ديسمبر/ كانون الأول 2018، في ضلوعهم في خطف الطالب الإيطالي جوليو ريجيني وقتله بالقاهرة بين يناير/ كانون الثاني وفبراير/ شباط 2016.
وأضافت المصادر التي تحدثت، لـ"العربي الجديد"، أنه بالتواصل مع الجانب الإيطالي دبلوماسياً وقضائياً خلال الأيام التالية للاتصال، تبيّن أن المدعي العام بروما قد أعدّ بالفعل مذكرة ادعاء لتقديمها إلى المحكمة المختصة خلال الأسبوع الأول من ديسمبر المقبل. وأنه نظراً لعدم امتلاك روما أي معلومات شخصية عن الضباط الخمسة المشتبه فيهم، عدا أسماء غير كاملة ووظائف بعضها قديمة، فإنه من المحتمل توجيه مذكرة الادعاء وطلب المثول أمام المحكمة، إلى السفارة المصرية في روما أو القنصلية، باعتبارها القائمة على المصالح المصرية في إيطاليا وفقاً للاتفاقات الدبلوماسية بين البلدين والقانون الدولي الجنائي، في ظلّ عدم وجود اتفاقية تعاون قضائي تنظم مثل هذه الحالة بين البلدين.
المدعي العام بروما أعدّ مذكرة ادعاء لتقديمها إلى المحكمة المختصة خلال الأسبوع الأول من ديسمبر المقبل
ورجّحت المصادر أن يتم الإعلان عن التقدم بهذه المذكرة وتسجيلها في المحكمة ضد المتهمين الغائبين في أحد أيام 3 و4 و5 من الشهر المقبل، إلا إذا تقدمت النيابة العامة المصرية قبل هذا التاريخ المرتقب بمعلومات جديدة من شأنها تعطيل تحريك الدعوى.
وتأتي هذه المستجدات تأكيداً للمعلومات التي انفرد بها "العربي الجديد" في الثلاثين من الشهر الماضي في أعقاب لقاء عقده بالقاهرة النائب العام المصري حمادة الصاوي وفريق من النيابة المصرية الموكل إليه التعاون القانوني في القضية مع فريق من مكتب المدعي العام بروما. إذ كشفت مصادر قضائية ودبلوماسية مصرية وقتها أنّ الوفد الإيطالي تحدّث خلال الاجتماع ضمنياً عن احتمالية اضطراره إلى إصدار قرار بغلق القضية مؤقتاً بتوجيه اتهامات للشخصيات المصرية التي تم التوصل إليها في التحقيقات ورفع أسمائها إلى الإنتربول إذا لم تبد السلطات المصرية تعاوناً في الكشف عن التفاصيل الحقيقية للحادث، بعيداً عن سيناريوهات التدليس والتلاعب التي حاولت الترويج لها سابقاً، وبعيداً أيضاً عن أي ادعاءات بتورط ريجيني في أنشطة تجسس أو تخابر.
والضباط الخمسة هم اللواء طارق صابر، والعقيد آسر كمال، والعقيد هشام حلمي، والمقدم مجدي عبد العال شريف، وأمين الشرطة محمود نجم.
واللواء طارق صابر، كان خلال الواقعة يعمل مدير قطاع في جهاز الأمن الوطني، وهو الذي أصدر تعليماته بمتابعة ريجيني بناء على تقرير رفع إليه من أحد مساعديه عن أنشطته البحثية وتواصله مع نقيب الباعة الجائلين، بمناسبة بحثه عن النقابات المستقلة في مصر.
أمّا الضابط الثاني، وهو العقيد آسر كمال، فكان يعمل رئيساً لمباحث المرافق بالعاصمة، وتوجد دلائل على أنه هو الذي أشرف على رسم خطة تعقّب ريجيني في إطار التنسيق بين الأمن الوطني والأمن العام، وقد تمّ نقله بعد الحادث بأشهر عدة للعمل بمحافظة أخرى.
أما المقدم مجدي شريف، فقد سبق أن نشر ادعاء روما اسماً رباعياً تقريبياً له هو مجدي إبراهيم عبد العال شريف، وهو الضابط الذي أبلغ عنه ضابط أفريقي بأنه سمع منه حديثاً عفوياً أثناء تدريب للضباط الأفارقة في كينيا عام 2017، اعترف فيه بتورطه في قتل ريجيني، أو "الشاب الإيطالي" كما وصفه، إلى حدّ القول بأنه "لكمه عدة مرات" بسبب "الاشتباه في كونه جاسوساً بريطانياً".
سيمثّل الحكم ضد الضباط الخمسة، في حال صدوره، وثيقة إدانة قضائية لأجهزة النظام المصري
وتتجه التحقيقات الإيطالية إلى أن الضابط مجدي شريف شارك ثلاثة ضباط آخرين، غير الخمسة المشتبه فيهم، أو خلفهم في إدارة ملف ريجيني، وأنهم جميعاً قاموا بتكوين شبكة من المخبرين حول الأخير والتي تضم - بحسب السيناريو الإيطالي - كلاً من زميلة ريجيني المقربة الباحثة نورا وهبي، وشريكه في السكن محمد السيد الصياد، ونقيب الباعة الجائلين.
وعلى الرغم من أنّ تحريك الدعوى غيابياً ضدّ الضباط الخمسة لن يؤدي إلى محاسبتهم مباشرة إذا أصرت مصر على عدم تسليمهم، إلا أنّ هذه الخطوة ستوفّر غطاءً قانونياً لرغبة روما في إدراج أسماء الخمسة على لائحة الإنتربول والتضييق على تحركاتهم، من ناحية. ومن ناحية أخرى، سيمثّل الحكم ضدهم حال صدوره، وثيقة إدانة قضائية لأجهزة النظام المصري الاستخباراتية والأمنية، وكذلك للقضاء المصري الذي لعب دور المتستر على مجموعة من الجرائم، بدءاً من تعذيب ريجيني وقتله ثم قتل مجموعة من الأشخاص والزعم بأنهم عصابة سرقة خطفت ريجيني وسرقت متعلقاته، ثم اتهام ريجيني نفسه بالتخابر، والانتهاء بتضليل التحقيق وإخفاء بيانات الضباط المشتبه فيهم.
وأوضحت المصادر الدبلوماسية التي تحدثت لـ"العربي الجديد" أنّ كونتي والمسؤولين الدبلوماسيين الإيطاليين يطالبون القاهرة بتقديم تنازلات عاجلة للحفاظ على وتيرة التعاون المتصاعدة بين البلدين في مجالات شتى، أبرزها التسليح والطاقة والاستثمارات، لكن النظام المصري ما زال يراهن على فشل تحركات الادعاء العام الإيطالي وتراجع الاهتمام بالقضية. وبدلاً من التعامل بجدية مع هذا التهديد الإيطالي، أبرزت وسائل الإعلام المصرية المملوكة للمخابرات العامة، مساء أول من أمس، أنباء مجهولة التفاصيل عن اختفاء مواطنين مصريين في إيطاليا، وأنّ السلطات الإيطالية لم تحرك ساكناً إزاء شكاوى مصرية بهذا الصدد، في محاولة لصرف نظر المراقبين والرأي العام عن إخفاء حقيقية ما جرى لريجيني طوال هذه السنوات.
وذكرت المصادر أنّ تحريك الدعوى الغيابية كان من الحلول التي بحثتها نيابة روما بعد البداية المتعثرة لمرحلة التعاون القضائي الجديدة بين البلدين في عهد النائب العام الحالي حمادة الصاوي، وذلك بإصدار تقرير بما انتهت إليه التحقيقات السابقة على مدار أربع سنوات ونصف السنة، وتوجيه الاتهام لأجهزة الأمن المصرية بشكل عام بارتكاب جريمة تعذيب ضدّ الإنسانية. وذلك في محاولة لإخضاع الحالة المصرية مع ريجيني للقوانين الإيطالية التي تنصّ على حظر توريد الأسلحة وكذلك وقف العلاقات التجارية مع الدول التي تتحمل حكوماتها مسؤولية مخالفات جسيمة للاتفاقيات الدولية المنظمة لحقوق الإنسان.
كونتي والمسؤولون الدبلوماسيون الإيطاليون يطالبون القاهرة بتقديم تنازلات عاجلة للحفاظ على وتيرة التعاون بين البلدين
ويأتي هذا بعد خطوات اتخذتها بعض القيادات الحزبية اليسارية للتنسيق مع نيابة روما في هذه المسألة، لكنها لم تتبلور حتى الآن في مشروع قرار برلماني. ومن المحتمل أن تبدأ النيابة قي هذا التحرك على مراحل، حتى لا تخاطر بالدفع في اتجاه عرض قرار "اعتبار مصر دولة خارجة عن اتفاقيات حقوق الإنسان" على البرلمان الإيطالي من دون ضمان وجود أغلبية نيابية تدعم ذلك التحرك، أخذاً في الاعتبار عجز اليسار والنواب المتعاطفين مع قضية ريجيني، ووالديه النشطين إعلامياً، عن تحريك المياه الراكدة حتى الآن، وعدم التأثير بأي صورة على السياسة التي ينتهجها كونتي. وسياسة الأخير قائمة على المضي قدماً في استغلال القضية لعقد المزيد من الصفقات لصالح الشركات الإيطالية الكبرى، بما في ذلك منح مصر تمويلاً رسمياً للصفقات من خلال الشركة الحكومية SACE التي تعتبر قناة الاتصال الحكومية بين وزارة الدفاع المصرية والبنوك الأوروبية والإيطالية المقرضة لها لضمان إنجاح الصفقات وسرعة تنفيذها.
يذكر أنّ وثيقة حصل عليها "العربي الجديد" ونشرها في التاسع من الشهر الماضي، كشفت أنّ قيمة مشتريات مصر من الشركات الإيطالية لتصنيع الأسلحة والذخائر وقطع الغيار والبرمجيات العسكرية لعام 2019 تضاعفت ثلاث مرات عن قيمة المشتريات في عام 2018، لتكون الأعلى في تاريخ العلاقات بين البلدين، وتتجاوز بعشرات الملايين القيمة الإجمالية للمشتريات خلال العقد الأخير كاملاً، بواقع مبلغ إجمالي بلغ 238 مليوناً و55 ألفاً و472 يورو، مقابل 69.1 مليون يورو تقريباً في عام 2018. وتنوعت المشتريات بين أسلحة جديدة بقيمة تتجاوز 97 مليون يورو، وقطع غيار للمعدات وبرمجيات وتراكيب وإضافات بقيمة 141 مليون يورو.
وأوضحت الوثيقة أنّ مصر جاءت في المركز الرابع عالمياً بين مستوردي الأسلحة الإيطالية، خلف الكويت وقطر وألمانيا. إذ تعددت مشترياتها بين مجموعة من أكبر شركات التصنيع الإيطالية، على رأسها شركة "ليوناردو" التي تم الاتفاق معها أخيراً على شراء 24 طائرة تدريب من طراز "إم-346" بقيمة إجمالية تتراوح بين 370 و400 مليون يورو. وهي ذاتها الشركة التي ستورد لمصر 32 طائرة مروحية من طراز "أغوستا-ويستلاند 149" والتي لم تحصل عليها مصر حتى الآن على الرغم من طلبها في إبريل/ نيسان الماضي وهي بقيمة 400 مليون يورو. فضلاً عن مشتريات مع شركات "بينيللي" و"إلكترونيكا" و"بيريتا" و"سيميل ديفيسا" و"أڤيو وفيرتيللي".