مع فشل رئيس الوزراء الإيطالي المستقيل، جوزيبي كونتي، الذي تمتع بشعبية فاقت كافة السياسيين الآخرين، في تشكيل حكومته ضمن المهلة التي حددها له الرئيس الإيطالي سيرجيو ماتاريلا حتى أول أمس الثلاثاء، بعد أن خرج منها رئيس الحكومة السابق، ماتيو رينزي، تتزايد الخشية من انعكاسات عدم الاستقرار في البلد على الوضعين السياسي والاقتصادي.
وبتكليف الرئيس ماتاريلا رئيس البنك المركزي الأوروبي السابق (بين 2011 و2019)، ماريو دراغي، تشكيل حكومة "تكنوقراط"، بفضل خبرته التي أنقذت منطقة اليورو من أزمة ديون كبيرة في 2012، تتأرجح الآمال في روما بين قدرة دراغي على تشكيل حكومة قادرة على تقديم خطة صرف وإدارة المنحة والمساعدات المالية الأوروبية، من صندوق التعافي الأوروبي بسبب جائحة كورونا، وبأكثر من 200 مليار يورو، لإنعاش اقتصاد البلاد بحلول نهاية إبريل/نيسان القادم؛ وبين تشاؤم من تراجع إجمالي الناتج المحلي بنحو 9 في المائة خلال 2020، وأن البلد ماض نحو عودة إلى أزمات نظامه وتركيبته غير المستقرة منذ 1945.
وليس بغريب أن الطبقة السياسية الإيطالية تعيش هذه الأيام مشاحنات وتراشقا واستقطابا يؤثر على استقرار النظام السياسي برمته، بحسب ما ذكرت صحيفة "كوريري دل سود".
وبينما يتربص اليمين القومي المتشدد، بزعامة رئيس حزب "الرابطة"، ووزير الداخلية السابق، ماتيو سالفيني، والحركة الفاشية "إخوة إيطاليا" بزعامة جورجيا ميلوني، من أجل الوصول إلى السلطة من خلال انتخابات مبكرة تمنحهما أغلبية برلمانية، وهو سيناريو غير محبذ أوروبيا، بسبب الموقف السلبي للتيارين السياسيين من مجمل عضوية بلديهما في الاتحاد الأوروبي، يشعر في المقابل رئيس وزراء إيطاليا الأسبق سيلفيو بيرلسكوني وحزبه "فورزا إيطاليا" أنها فرصته للعب دور، كما ذكر موقع "شؤون إيطالية"، وعينه على خلافة الرئيس ماتاريلا.
سالفيني ذكر أمس الأربعاء أنه لن يعارض تشكيل حكومة متخصصة برئاسة دراغي، ورغم ذلك يأمل الرجل قي أن تثمر مساعيه في دفع البلد باتجاه انتخابات مبكرة، وخصوصا مع إعلان حركة "5 نجوم" أنها لن تعطي أصواتها للحكومة الجديدة.
يعول دراغي على مشاورات تشكيل حكومته بتوافق بين دعم مختلف الأجنحة السياسية، ليمضي قدما في تجاوز مطبات كثيرة تعترض طريقه كخبير اقتصادي.
محاولات الوصول إلى تسويات
الأزمة السياسية الجديدة التي تعيشها روما هذه الأيام ليست جديدة، فرئيس الوزراء السابق، ماتيو رينزي، عبر عنها بكل وضوح في انشقاقه عن حزبه السابق، "الديمقراطي"، وتشكيل حزبه الجديد "تحيا إيطاليا" في خريف 2019, وإلى جانب عدم استقرار تركيبة النظام السياسي، إذ تعد إيطاليا من أكثر الدول الأوروبية تغييرا للحكومات منذ 70 سنة، فإن طبقتها السياسية تعكس هشاشة النظام بمجمله، فقد تغيرت رئاسة الحكومة 12 مرة منذ 1991، وفي المتوسط، ولم تعمر الحكومات المتعاقبة أكثر من عام ونصف العام. وترافق ذلك دوما مع تغيير متوال لـ940 برلمانيا، من حزب إلى آخر. ومنذ انتخابات 2018 فقط غير 150 برلمانيا أحزابهم، متنقلين بين حزب وآخر، وهي عادة مستمرة على مدى عقود، وتعبر في جوهرها عن غياب التزام المشرعين بوعودهم وولائهم لأحزابهم التي انتخبوا على قوائمها.
حين انشق ماتيو رينزي -الذي عولت عليه إيطاليا وأوروبا في انتخابه الأول عام 2014 كرئيس حكومة شاب (39 سنة آنذاك)- عن حزبه الديمقراطي في 2019، رغم وعوده أنه لن يفعل، لمصلحة تشكيل حزبه الصغير، بدا واضحا أن أزمة حقيقية يعيشها يسار الوسط الإيطالي.
وأثّر تغير الولاءات كثيرا على مزاج الشارع الإيطالي، وبات اليسار الإيطالي ينظر إلى رينزي باعتباره "نموذجا للسياسي الذي لا يثق فيه الشارع". فرينزي الذي ظل يردد أن مهمته "منع وصول اليمين المتشدد إلى السلطة"، وبالأخص ماتيو سالفيني، أدخل حكومة كونتي، منذ بداية يناير/كانون الثاني الماضي، في أزمتها الحالية حين انسحب منها ومن تحالفه مع يسار الوسط. فلعبة "البوكر السياسي" التي لعبها رينزي تتمثل في معرفته أن الاستطلاعات لم تعد تمنح شخصه شعبية كبيرة (ليس أكثر من 11 في المائة ينظرون إليه كرجل دولة) مقابل نحو 56 في المائة لمصلحة كونتي، وهو كان يراهن على عدم ذهاب البلد نحو انتخابات مبكرة (لا يحظى حزبه بأكثر من 3 في المائة في الاستطلاعات)، مع معرفته التامة بأن اليمين المتشدد، الذي وعد بمنعه من استلام السلطة، بزعامة وزير الداخلية السابق، سالفيني، يتأهب لها، أملا في استلام الحكومة القادمة.
مراهنة رينزي تقوم على أن يحكم رئيس وزراء مثل ماريو دراغي حتى عام 2023، كما صرح بنفسه لصحيفة "لا ريبوبليكا" الإيطالية اليوم الخميس، على أن يرتب صفوف حزبه، ويعيد "بمراهنة سياسية على مستقبله السياسي وعلى اقتصاد البلد بعض ما خسره"، بحسب ذات الصحيفة.
ويدرك يسار الوسط، الديمقراطي حجم المأزق الذي أدخلهم في نفقه رينزي، ولهذا وجه الحزب نداء لليسار ويسار الوسط "ألا تعطوا رينزي فرصة لتقسيمنا وتشتيتنا"، بحسب ما ذكرت "إل مانيفستو" اليوم الخميس.
في وسائل الإعلام الإيطالية ينظر مختصون ببالغ القلق إلى "عدم استقرار النظام السياسي" وتأثير ذلك على الاقتصاد المنهك، وعلى حزمة إعادة الإنعاش الأوروبية، وهو ما نقلته الخميس "لا ستامبا" عن خبراء إيطاليين يرون أن "الفيتو السياسي" ربما يعيق مهمة دراغي في إنقاذ الوضع المعقد في إيطاليا.
أستاذ العلوم السياسية في جامعة لويز غويدو كارلي في روما، روبرتو ديليمونتي، يرى في تصريحات معقبة على الأزمة، أن أوروبا "تنظر الآن بعين متفحصة، وبكثير من الشك والريبة، وسط أزمة الجائحة". ويرى ديليمونتي أن "الواقع السياسي الإيطالي يعيش فوضى مستمرة، فاليوم تبدو الولاءات للأشخاص أكبر من الولاء للأحزاب وبرامجها، حيث يقفز الساسة من حزب إلى آخر لتحقيق نفوذ سياسي أكبر". ووفقا لتصريحات ديليمونتي فإن ضعف الأحزاب السياسية "يغيب سياسة الوصول إلى تسويات لمصلحة الاستقطاب للأشخاص، وهو ما يضعف المؤسسات ويجعلها غير مستقرة إلى أن يجري إصلاح النظام السياسي".
على كل، إلى حين أن تنقشع بعض غيوم جهود الـ"سوبر ماريو"، كما يطلق الأوروبيون على رئيس بنكهم المركزي السابق، ماريو دراغي، يبدو أن إيطاليا لا مخرج لها سوى بتبني ساستها بعض التنازلات والوصول إلى تسويات تنقذ بلدهم وتقي أوروبا مخاطر اقتصادية وانهيارات ليست في مصلحة الاتحاد الأوروبي.