كشفت مصادر دبلوماسية أوروبية لـ"العربي الجديد"، عن إجراء اتصالات بين عدد من السفارات الأوروبية في القاهرة خلال الأيام الماضية، بهدف التنسيق لاتخاذ خطوات "موحدة وصارمة" على خلفية الهجمة الأمنية الحالية على منظمة "المبادرة المصرية للحقوق الشخصية"، والرد "المزعج والمتمادي"، للخارجية المصرية على الانتقاد الفرنسي الرسمي للقاهرة. فقد دانت وزارة الخارجية الفرنسية القبض على المدير الإداري للمبادرة محمد بشير، فيما تحدت السلطات المصرية هذا الانتقاد وقبضت كذلك على ناشط آخر هو كريم عنارة، مدير برنامج العدالة الجنائية بالمبادرة، في أول تصعيد أمني على هذا المستوى منذ الحراك الشعبي المعارض في سبتمبر/أيلول الماضي.
وتعتبر الدول الأوروبية المعنية أن هذا التصعيد يوجه رسائل عدة إليها بشكل مباشر، إذ تأتي الهجمة الأمنية على "المبادرة المصرية للحقوق الشخصية"، بعد أيام من استضافتها عدداً من سفراء ونواب سفراء دول الاتحاد الأوروبي ومفوضية الاتحاد، في لقاء حول أوضاع حقوق الإنسان في مصر، حضره سفراء ألمانيا وفرنسا وإسبانيا والسويد وإيطاليا وهولندا وفنلندا، وغيرها من الدول النشطة في علاقاتها مع مصر في مجالات اقتصادية واجتماعية مختلفة.
الهجمة الأمنية على "المبادرة المصرية للحقوق الشخصية" أتت بعد استضافتها عدداً من سفراء دول الاتحاد الأوروبي
وذكرت المصادر أنّ المعلومات الواردة من الخارجية المصرية بشكل غير رسمي، تشير إلى أنّ الهجمة الأمنية هي عقاب من السلطات المصرية على ما اعتبرته "تحدياً لها" بالإعلان عن عقد ذلك الاجتماع من قبل بعض السفراء والمنظمة الحقوقية المذكورة، خصوصاً أنّ مثل تلك الاجتماعات كانت تعقد في السابق على نطاق واسع أو محدود وتُعرف تفاصيلها لدى الأجهزة الأمنية لكنها لا تعلن. فضلاً عن تداول بعض الموضوعات التي تسببت في حرج للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ووزير الخارجية سامح شكري، خلال زيارة وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان في الثامن من نوفمبر/تشرين الثاني الحالي للقاهرة.
وأضافت المصادر أنّ هذا التصعيد قرأته العواصم الأوروبية المنخرطة في متابعة المجال العام المصري، بطريقة أخرى، وهي أنها محاولة مزدوجة من النظام للوقوف على درجة اهتمام دائرة الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن بالأوضاع في مصر، بعد الاتصالات السرية المباشرة وغير المباشرة بين النظام وبين مجموعة بايدن، والقرارات التي اتخذت بإخلاء سبيل عدد كبير من المعتقلين، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى تعطيل الاهتمام الأوروبي المتصاعد بإعادة التواصل مع المنظمات الحقوقية المصرية القليلة التي ما زالت قائمة ونشطة، بعد نحو أربع سنوات من تراجع اهتمام الأوروبيين بهذا الملف، وما نتج عن ذلك من تضاؤل الدعم المالي للمشروعات والأنشطة المتعلقة بالمجال العام وذات البعد الحقوقي والسياسي.
وعن وسائل الضغط الوارد استخدامها في هذه المرحلة، قالت المصادر إنّ هناك العديد من المقترحات المطروحة حالياً لمراجعة مستوى التعاون الأمني والمساعدات الخدمية والاجتماعية لنظام السيسي، موضحةً أنّ عدداً من الدول أصبحت واعية لاستراتيجية السيسي القائمة على اتخاذ قرارات متعارضة لتوجيه رسائل مختلطة للعواصم الغربية المهتمة، مما يمكّنه من ادعاء تحقيق انفراجة في بعض الملفات واستعداده لاتخاذ خطوات إصلاحية، عند اقتراب مواعيد طلبه قروضاً أو مساعدات من الأوروبيين والمؤسسات الدولية. وذكرت المصادر أنّ المشكلة القائمة في أوروبا ضدّ تلك المقترحات، هي محاولة تعطيلها من قبل مجموعات محافظة ونيو ليبرالية، كما حدث في أعقاب اعتقال الباحث بجامعة بولونيا الإيطالية باتريك جورج، مطلع العام الحالي، عندما تم إجهاض مقترحات في البرلمان الأوروبي لمطالبة العواصم بتوقيع عقوبات على نظام السيسي، بحجة أهميته الاقتصادية والعسكرية والاستخباراتية في المنطقة، خصوصاً في سياق الأزمة الليبية.
وأشارت المصادر إلى استمرار حالة من عدم الارتياح بين مسؤولي الملفات الإعلامية والأهلية والحقوقية بالسفارات الأوروبية وبين إدارة وزارة الخارجية الحالية، بسبب تجاهل الوزير سامح شكري وغيره من المسؤولين في وزارته وفي الداخلية أيضاً لاعتراضاتهم المتوالية على سوء الأوضاع الحقوقية، وبصفة خاصة أوضاع السجناء. فضلاً عن التضييق المطرد على الشخصيات الحقوقية البارزة، بل وتلميح بعض المسؤولين المصريين للدبلوماسيين الأجانب بأنه لولا تدخلهم، لكان قد تم القبض على عدد من النشطاء المتواجدين خارج السجون، والممنوعين من السفر على ذمة قضايا عدة، أبرزها التمويل الأجنبي للمجتمع الأهلي، التي لم ينته رسمياً التحقيق فيها حتى الآن، بعد حوالي خمس سنوات من الاستدعاءات والفحص والملاحقة الأمنية وقرارات المنع من السفر وتجميد الأموال.
وفي ما له صلة بمجالات التعاون الأمني الوارد تأثرها، فقد سبق أن كشفت مصادر دبلوماسية مصرية لـ"العربي الجديد"، أنّ النظام يسعى لتجديد الحصول على مساعدات مالية وفنية وتدريبية من دول مختلفة بالاتحاد الأوروبي، لإقامة فعاليات مختلفة في العاصمة المصرية القاهرة، لتدريب الدول الأفريقية على الطرق الحديثة للتصدي لظاهرة الهجرة غير النظامية، والتعامل الأمني والقانوني والإعلامي والاجتماعي مع ضحايا تلك الظاهرة. ويأتي ذلك في إطار رغبة السيسي في الاحتفاظ بصورة نظامه كمدافع عن استقرار أوروبا، بعدما تراجعت بشدة وتيرة الترويج للخطة الأوروبية التي كانت تطرحها حكومة النمسا ودوائر مختلفة بألمانيا وإيطاليا وفرنسا، لإقامة مراكز في مصر لتجميع ضحايا الهجرة غير الشرعية واللاجئين الأفارقة غير المقبولين وإعادة تأهيلهم وإعادتهم لبلدانهم، على غرار المراكز القائمة في تركيا.
هناك العديد من المقترحات المطروحة حالياً لمراجعة مستوى التعاون الأمني والمساعدات الخدمية والاجتماعية لنظام السيسي
وذكرت المصادر أنّ القاهرة استضافت بالفعل مشروعاً لتأهيل الشرطة وقوات الأمن الأفريقية لمواجهة الهجرة غير الشرعية، بتمويل مادي وفني وتدريبي مباشر من الحكومة الإيطالية، استمر من ربيع عام 2018 وحتى خريف العام الماضي، وأنه كان أحد صور التعاون الأمني "غير المعلن" بين البلدين، على الرغم من توتر العلاقات الأمنية والقضائية وحتى السياسية، على خلفية المماطلة والتسويف وادعاء التعاون من قبل النيابة العامة المصرية مع روما في قضية مقتل الطالب جوليو ريجيني.
لكن الأحزاب اليسارية في إيطاليا تعارض المضي قدماً في تقديم مثل هذا الدعم الاستثنائي للسيسي وحكومته، طالما استمر إخفاء الحقيقة في قضية ريجيني، ويطالبون بربط تجديد هذا التعاون وغيره من صور التنسيق الأمني على وجه التحديد، بتحقق انفراجة في التعاون القضائي.
وفي ألمانيا، صعدت الأوضاع الحقوقية في مصر إلى سطح الجدل العام، بعدما منحت دار أوبرا دريسدن وسام "القديس جورج" للسيسي، نهاية يناير/كانون الثاني الماضي، بحجة أنه "حامل للأمل ومشجع لقارة أفريقيا بكاملها"، الأمر الذي يعكس انقسام الدوائر الألمانية الرئيسية حول أهمية التعامل مع السيسي باعتباره رئيساً لبلد بحجم مصر، على الرغم من كل الملاحظات السلبية على سجله الحقوقي والسياسي. وقد أدت المعارضة السياسية لقرار الأوبرا لإعلانها التراجع عن منح السيسي وسامها.
وكان وزير الخارجية الألماني هايكو ماس قد وجه إلى السيسي ووزير خارجيته سامح شكري، خلال زيارته الأخيرة للقاهرة نهاية أكتوبر/تشرين الأول الماضي، انتقادات معتادة من المسؤولين الأوروبيين عموماً والألمان خصوصاً، بشأن حالة حقوق الإنسان والتعامل الأمني مع المعارضة والمتظاهرين، لكن ما لم يكن معتاداً هو تصريحه العلني بضرورة أن "يتنفس المصريون نسائم الحرية" على هامش أول زيارة لوزير خارجية ألماني لمصر منذ 4 سنوات.
ووفقاً لمصادر دبلوماسية سبق وتحدثت لـ"العربي الجديد"، فإن وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، تحدث مع السيسي خلال زيارته الأخيرة حول استمرار حبس عشرات النشطاء السياسيين والحقوقيين ممن تم اعتقالهم قبيل وعقب أحداث العشرين من سبتمبر/أيلول 2019، وأبرزهم المتهمون في القضية المعروفة إعلامياً بـ"مجموعة الأمل"، والذين كانوا يحاولون التنسيق للمشاركة في انتخابات مجلس النواب الأخيرة، ولكن منعتهم السلطات من ممارسة حقهم السياسي باعتقالهم.