ما كان احتجاجاً على سياسات وإجراءات الحكومة الكندية تجاه التعامل مع وباء كوفيد-19، والقيود المفروضة التي تعد من بين الأكثر صرامة في العالم، تحوّل إلى حركة احتجاجية كبيرة في كندا، لا يبدو أن تداعياتها السياسية ستنتهي قريباً، على الرغم من نجاح الشرطة في استعادة السيطرة شبه الكاملة على وسط مدينة أوتاوا، منذ يوم الأحد، بعد شلّه لمدة 24 يوماً بسبب احتجاج سائقي الشاحنات.
وخيّم المئات من سائقي الشاحنات خارج مقر البرلمان في أوتاوا منذ نهاية يناير/ كانون الثاني الماضي احتجاجاً على إلزامهم بالتطعيم ضد كورونا لعبور الحدود الكندية الأميركية.
لكنّ المطالب اتسعت لاحقاً لتشمل إلغاء مجمل التدابير الصحية لمكافحة كوفيد-19، وامتدت بالنسبة للبعض إلى رفض بقاء حكومة جاستن ترودو. وبينما شمل التحرك أكثر من منطقة كندية، إلا أن الاحتجاج الأساسي في العاصمة الكندية كان الأكثر جذباً للاهتمام وإقلاقاً للحكومة، التي واجهت انتقادات كبيرة بالفشل في التعامل مع الاحتجاج، قبل أن يلجأ ترودو إلى قانون الطوارئ للتعامل مع المحتجين.
نجحت الشرطة في تفريق المحتجين في أوتاوا مع إلقاء القبض على أكثر من 190 متظاهراً وإزاحة نحو ثمانين عربة وشاحنة
وصعّدت الشرطة أسلوب تعاملها مع المحتجين في أوتاوا في عطلة نهاية الأسبوع الماضي، ونجحت في تفريق معظم المحتجين مع إلقاء القبض على أكثر من 190 متظاهراً وإزاحة نحو ثمانين عربة وشاحنة أطلقت العنان لأبواقها لأسابيع في المدينة.
وتم اعتقال أربعة من المنظمين الرئيسيين للاحتجاجات، من بينهم تامارا لينش، إحدى قادة الاحتجاجات. كما اعتُقل كريس باربر، أحد قادة الحركة الاحتجاجية، في عملية جرت بهدوء وتم تصويرها ونشرها على شبكات التواصل الاجتماعي.
لكن السلطات أشارت إلى أن "عملية الشرطة لا تزال مستمرة"، موضحة أنها قامت بوضع سياج حول مبنى البرلمان الكندي "لضمان عدم خسارة المنطقة المستعادة".
وقال قائد شرطة أوتاوا ستيف بيل، في مؤتمر صحافي: "لقد وعدنا بأننا سنحرر شوارعنا ونعيدها إلى سكاننا... كل ساعة تمر تقربنا من تحقيق هذا الهدف". ولفت بيل إلى أن من تم اعتقالهم حتى الآن يواجهون 389 تهمة جنائية مختلفة، بما في ذلك عرقلة عمل الشرطة، وعصيان أمر محكمة، والاعتداء، والإيذاء، وحيازة سلاح والاعتداء على ضابط شرطة.
وعلى الرغم من عودة الهدوء أخيراً إلى أوتاوا، فإن الحركة الاحتجاجية ربما تكون لها آثار دائمة في البلاد، بعدما خلقت اضطراباً عبر الحدود، وأدت إلى قطع ستة معابر حدودية مع الولايات المتحدة، بينها طريق تجارة استراتيجي عبر جسر أمباسدور بين ويندسور وأونتاريو وديترويت.
وأجبرت الاحتجاجات الكثير من المصانع على تعليق الإنتاج. وكانت لقطع المعابر على مدى أيام عواقب شديدة، دفعت واشنطن إلى التدخل لدى حكومة ترودو. وقال وزير الأمن العام الكندي ماركو مينديسينو إن "العرقلة غير القانونية على الحدود" كلفت الاقتصاد الكندي مليارات الدولارات.
وحتى أن هذه الحركة ألهمت آخرين خارج حدود البلاد. ففي واشنطن، تتحضر قافلة من سائقي الشاحنات للتوجّه إلى هناك مع اقتراب موعد إلقاء الرئيس جو بايدن الخطاب السنوي للأمة في الكونغرس، والمقرر في الأول من مارس/ آذار المقبل. وتحسباً لذلك، قد يقام سياج حول مبنى الكابيتول.
دور الجماعات المتطرفة في احتجاجات كندا
في الداخل الكندي، كانت الاتهامات تُوجّه لـ"جماعات متطرفة" بالمساعدة في تنظيم الاحتجاجات في أوتاوا وعند المعابر الحدودية مع الولايات المتحدة، وفق وزير الأمن العام ماركو مينديسينو، الذي قال إن بعض الجهات تريد الإطاحة بالحكومة.
وأوضحت نائبة مدير الشبكة الكندية لمكافحة الكراهية إليزابيث سيمونز أن المجموعة المعنية هي "دياغولون"، وهي جماعة يمينية متطرفة. وما أثار القلق إعلان السلطات الأمنية في 14 فبراير/ شباط الحالي، أنها اعتقلت 11 شخصاً وصادرت منهم أسلحة ودروعاً واقية وذخيرة في كوتس - ألبرتا، حيث كانت قافلة أخرى تحاول قطع الحدود بين الولايات المتحدة وكندا.
رفعت أعلام الكونفدرالية وجماعة "كيو أنون" وشعارات عليها صور ترامب في بعض التجمعات
وكانت لبعض قادة القافلة، التي سُميت "قافلة الحرية"، خلفيات تنظيمية يمينية، بما في ذلك تامارا لينش. وبدا لافتاً رفع أعلام الكونفدرالية وجماعة "كيو أنون" وشعارات عليها صور الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في بعض التجمعات لسائقي الشاحنات في أنحاء مختلفة من كندا. كما ظهر زعيم حزب الشعب اليميني المتطرف ماكسيم بيرنييه في الاحتجاجات، لكنه لم يجذب انتباهاً كبيراً.
وتبحث السلطات بشأن كيفية حصول هذه القافلة على التمويل "وما إذا كان هناك تأثير أجنبي"، وفق وزيرة الخارجية الكندية ميلاني جولي، التي أضافت في تصريح لقناة "سي أن أن"، أنها أثارت المشكلة مع نظيرها الأميركي أنتوني بلينكن.
وعملت السلطات على تجميد الأموال المرتبطة ببعض الأفراد والشركات التي يُعتقد أنها متورطة في احتجاجات أوتاوا. وزاد المبلغ الذي تم التبرع به لسائقي الشاحنات عن 8 ملايين دولار، غالبيته جاءت من كندا، وفق وسائل إعلامية.
وإزاء هذا الوضع، وبعد انتقادات للشرطة بالفشل في إنهاء الاحتجاجات وسط أوتاوا، لجأ ترودو، يوم الثلاثاء الماضي، لتفعيل قانون إجراءات الطوارئ. ونقلت وكالة "رويترز" عن مصادر قولها إنّ الإحباط بسبب عدم قدرة الشرطة على رفع الحصار على الحدود وفي العاصمة، دفع ترودو في النهاية إلى تفعيل سلطات الطوارئ.
كما أجاز ترودو للبنوك والمؤسسات المالية التجميد المؤقت لحسابات المشتبه بدعمهم للاحتجاجات من دون الحصول على أمر قضائي. واستُخدم قانون الطوارئ مرة وحيدة في زمن السلم، وذلك عام 1970 في كيبيك حين كان بيار إليوت ترودو، والد رئيس الوزراء الحالي، يحكم البلاد.
واعتبر رئيس الحكومة في كلمة، الخميس الماضي، أمام مجلس العموم، أنّ الاحتجاجات ضد التدابير الصحية في كندا لم تعد "سلمية"، مضيفاً أنه حان الوقت "لاسترجاع الثقة بالمؤسسات"، وقال إن "هدف كل الإجراءات، وبينها الإجراءات المالية التي ينص عليها قانون الطوارئ، هو مواجهة التهديد الحالي والسيطرة على الوضع بالكامل". وشدد على أن "الحواجز والاحتلالات تشكل تهديداً لاقتصادنا ولعلاقاتنا مع شركائنا التجاريين".
وفي رسالة وجهها إلى رؤساء حكومات المقاطعات، مساء الأربعاء، اعتبر ترودو أن التحرك الاحتجاجي "يهدد الديمقراطية" ويدمر "سمعة كندا في الخارج". وحاول ترودو طمأنة المواطنين إلى أنه "لا نستخدم قانون حالات الطوارئ لاستدعاء الجيش، ولا نحد من حرية تعبير الناس، ولا نحد من حرية التجمّعات السلمية".
لكن ذلك لم يقنع المعارضة وبعض الجمعيات العاملة في المجالات الحقوقية. وقالت المديرة التنفيذية لجمعية الحريات المدنية الكندية نوا مندلسون أفيف إن الحكومة فشلت في تلبية الحد الأدنى لفرض قانون الطوارئ، إذ لم يتم استخدامه للتعامل مع تهديد شديد لكندا، ولكن "لحماية الاقتصاد"، وأضافت "لا ينبغي تطبيع تشريعات الطوارئ. إن ذلك يهدد ديمقراطيتنا وحرياتنا المدنية".
كما قال العديد من نواب المعارضة إن ترودو فشل كزعيم. واتهمت الزعيمة المؤقتة لحزب المحافظين كانديس بيرغن ترودو بالعمل على تسييس الوباء، وقالت: "أتيحت لرئيس الوزراء الفرصة للتحدث والاستماع إلى الكثير ممن لم يتفق معهم، ولكنه رفض فعل ذلك، لذلك يبدو هذا وكأنه نهج مكشوف سيكون له تأثير عكسي".
الارتدادات السياسية لـ"قافلة الحرية"
وتثير الاتهامات الموجهة لترودو تساؤلات حول الارتدادات السياسية لهذا الحراك والتعامل معه، وهل سيشكل بداية تحوّل أكثر جوهرية في المشهد السياسي للبلاد؟ وهل نجحت هذه الحركة في تشكيل قاعدة لتنظيم سياسي دائم؟
وكانت استطلاعات الرأي قد أظهرت تعاطفاً شعبياً غير قليل مع دوافع سائقي الشاحنات، ولكن مع استمرار الحراك لفترة طويلة، وعرقلة الحركة وسط أوتاوا، فَقَد العديد من الكنديين، وخصوصاً السكان المحليين، تسامحهم مع المحتجين. وأشار استطلاع رأي نشره أخيراً معهد "أنغوس ريد"، إلى أن أكثر من 70 في المائة من الكنديين أرادوا أن يغادر المتظاهرون العاصمة.
استمرار الحراك لفترة طويلة أفقد المحتجين التعاطف الشعبي معهم
لكن المتظاهرين نجحوا في تحقيق نصر تكتيكي بعدما شغل حراكهم الرأي العام في البلاد وحتى خارجها، وأوصلوا رسائلهم عبر كاميرات التلفزة وشبكات الإنترنت، وأثاروا جدلاً حول القيود المفروضة لمواجهة وباء كورونا.
وقال المتحدث باسم القافلة بي جيه ديختر، في مناقشة عبر الإنترنت بين المؤيدين، الأسبوع الماضي: "الدرس الكبير في كل هذا هو أن الجميع تعلّم أننا لسنا عاجزين في الواقع"، مضيفاً أن الكثير "حدث نتيجة اجتماع كل هؤلاء الناس".
يُذكر أن ترودو كان قد فاز بصعوبة في الانتخابات المبكرة التي دعا إليها في سبتمبر/ أيلول الماضي، من دون الحصول على أغلبية الـ170 مقعداً مطلوباً، ما دفعه للتحالف مع أحزاب أخرى لتشكيل حكومة أقلية.
وكان ترودو قد دعا لهذه الانتخابات قبل نحو سنتين من نهاية عمر البرلمان، مع تراجع شعبية حزبه الليبرالي، بعد انتقادات حول التعامل مع أزمة كورونا والوضع الاقتصادي.
وفيما ينص القانون الكندي على إجراء الانتخابات الفيدرالية مرة كل أربع سنين، فإنه يسمح بإجراء انتخابات في وقت مبكر. يحدث هذا إذا وافق الحاكم العام على نصيحة رئيس الوزراء بحل البرلمان، كما يحدث إذا قبل الحاكم العام استقالة رئيس الوزراء بعد هزيمة الحكومة بناءً على اقتراح بثقة في مجلس النواب ولم يطلب الحاكم العام من زعيم حزب آخر أن يصبح رئيسا للوزراء وتشكيل الحكومة.
(العربي الجديد)