يواجه المسار التنسيقي بين مصر والسودان في ملف سد النهضة مجموعة من الصعوبات، بسبب اختلاف الأولويات خلال المرحلة المقبلة، خصوصاً بعد تسجيل فيضان النيل مستويات غير مسبوقة هذا العام، تسببت في آثار خطيرة ومميتة للسودان. ومن الممكن استمرار تلك الآثار خلال السنوات القليلة المقبلة، التي يتوقع الخبراء تكرار الفيضان الكبير للنيل فيها بنسب متفاوتة. ويزيد هذا من أهمية وفاعلية سد النهضة بالنسبة للسودانيين، لا سيما مع كونه محوراً لمشروعات كبرى تجمعهم بأديس أبابا كتوليد وشراء الكهرباء.
ومع تضرر السودان من الفيضانات، حرصت مصر على تقديم المساعدات له، سواء في إصلاح السدود والخزانات الصغيرة أو الإسعافات والإمدادات الطبية. في غضون ذلك، عُقدت جلسات عدة عن بُعد بين مسؤولين دبلوماسيين وفنيين من البلدين، خلال شهر سبتمبر/أيلول الماضي، لكنها فشلت في رفع مستوى التنسيق بين البلدين في القضايا الرئيسية التي تشغل كلا منهما في مواجهة التعسف الإثيوبي، الذي يعطّل المفاوضات المتوقفة حالياً في انتظار حلحلة دولية وإقليمية وقرار من الاتحاد الأفريقي بالعودة إلى طاولة المناقشات.
هناك خلافات لم تحل بين الدولتين حول الأولويات
وذكرت مصادر مصرية لـ"العربي الجديد"، أن التوافق السياسي الظاهر بين النظام المصري برئاسة عبد الفتاح السيسي، ومجلس السيادة الانتقالي في السودان، على ضرورة التنسيق الفني بين البلدين في المفاوضات، لا ينعكس بشكل كامل على المناقشات الفنية كلما بدأت، فهناك خلافات لم تحل بين الدولتين حول الأولويات، ومدى أهمية التمسك ببعض البنود التي تعتبرها مصر ضرورية لها ويبدي فيها السودان مرونة ملحوظة.
وأضافت المصادر أن رغبة القاهرة في استمالة الخرطوم في كل النقاط العالقة يهدف إلى إظهار إثيوبيا كطرف منقلب على مائدة التفاوض. ويمكّن هذا مصر من رفع مستوى طلباتها من الدول الفاعلة في مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، لاجتذاب تأييد دولي ومؤسسي لموقفها المطالب حالياً بعدم اتخاذ أي إجراءات أحادية أخرى بعد الملء الأول للسد، إلا بعد الاتفاق على قواعد الملء والتشغيل.
وقطعت مصر في هذا الصدد العديد من التعهدات لمساعدة مجلس السيادة السوداني، على مستوى الدعم الفني والمالي في مجالات الزراعة والنقل والطاقة، وأنها ستتوسط لدى بعض الدول الغربية، ومنها الولايات المتحدة، لجذب مزيد من المساعدات. وتدعم القاهرة أيضاً مطالبة الخرطوم بالحصول على عدد من القروض التنموية وإسقاط مديونيات قديمة ورفع جميع العقوبات عنها، وانتهاء بالسعي لتطبيع العلاقات مع دولة الاحتلال الإسرائيلي والانخراط معاً في مشروعات اقتصادية كبرى. كما أن مدير المخابرات المصرية اللواء عباس كامل زار الخرطوم، خصيصاً في الأسبوع الرابع من يوليو/تموز الماضي، لضمان تماسك موقف مجلس السيادة لتأييد موقف مصر.
وهناك اتفاق بين مصر والسودان على معظم القضايا القانونية في مواجهة إثيوبيا، فهناك توافق بينهما على إلزامية الاتفاقية التي سيتم توقيعها، وهناك أفكار مشتركة حول تكوين آلية فض منازعات ستنشأ مستقبلاً حول تشغيل السد والملء، بحيث يتم اختيار طرف وسيط من قبل كل دولة من الثلاث، ويجرى التفاوض بين الوسطاء بنظام التحكيم القانوني لحين الوصول إلى قرار.
كما تتفق مصر والسودان على معارضة رغبة إثيوبيا في تحويل الاتفاقية إلى اتفاق للمحاصصة في مياه النيل وإلغاء اتفاقية 1959 بين مصر والسودان، وهناك توافق بينهما أيضاً على معارضة رغبة إثيوبيا في انتزاع موافقة مسبقة على إقامتها مشروعات مائية أخرى على مجرى النيل الأزرق، وتطبيق القواعد الاسترشادية الخاصة بسد النهضة عليها.
وبحسب المصادر، فإن المسؤولين السودانيين يرون أن التوافق في القضايا القانونية يعبّر عن الالتزام السياسي للخرطوم إزاء القاهرة إبداء لروح التعاون الأخوي بين البلدين. لكن على المستوى الفني كشفت فترة توقف المفاوضات الحالية تغير الأولويات. في السياق، تولي مصر اهتماماً كبيراً بفكرة الربط بين السدود وكمية التدفق السنوية ونوعية المياه والتصرفات التي ستجرى عليها، يهتم السودانيون في المقام الأول بضرورة وضع برنامج واضح للملء المستمر والدائم للسد، وبحجم التدفق اليومي من السد، والذي سيصل إلى سد الروصيرص حتى لا تتأثر السلامة الإنشائية للأخير، مع تمسّك الخرطوم بأن يكون التغير في حدود 250 مليون متر مكعب وتقترح أديس أبابا 350 مليوناً.
وتختلف الرؤية المصرية عن السودانية أيضا حول فترات الجفاف والجفاف الممتد، إذ تقترح مصر تمرير 37 مليار متر مكعب كرقم وسط بين ما تطالب به إثيوبيا وهو 32 مليارا وما كانت تطالب به مصر وهو 40 مليار متر مكعب، على أن يُترك الرقم الخاص بأوقات عدم الملء والرخاء لآلية التنسيق بين الدول الثلاث. لكن السودان يعتبر أن التمسك بالرقم الجديد المقترح من مصر لا يمكن اتفاقه مع جهود إثيوبيا للملء الجاد، كما أن هناك خلافاً أيضاً حول خطة إثيوبيا للاستخدامات الخاصة بالمياه، سواء كانت مخصصة لإنتاج الطاقة أو الزراعة أو غيرها.
وعلى الرغم من غياب إثيوبيا عن النقاشات بعد تقديمها ورقة مبتسرة في اجتماعات أغسطس/آب الماضي، فما زال هناك اتفاق فني بينها والسودان على ضرورة إبقاء منسوب المياه في بحيرة سد النهضة أعلى من 595 متراً فوق سطح البحر، لتستمر قدرته على إنتاج الكهرباء. وهو أمر تطالب مصر بإلغائه نهائياً وتؤكد أنه غير عادل إذا انخفض مقياس المياه في بحيرة ناصر عن 165 أو 170 متراً، وهذا ينعكس بالطبع على نقطة خلافية سبق ذكرها حول الربط بين مؤشرات القياس في سد النهضة وكل السدود، وعلى رأسها السد العالي.
ولم يؤد التنسيق المحدود بين مصر والسودان منذ إبريل الماضي، في أعقاب رفض الخرطوم التوقيع على مسودة اتفاق واشنطن التي وقعت عليها مصر منفردة، وبلغ ذروته في توجيه مذكرات لمجلس الأمن لرفض التصرفات الأحادية الإثيوبية، إلى أي حلحلة. ويعود السبب إلى أنه لم يمس لبّ الأزمة، المتعلقة بالموقف الإثيوبي المتمسك بالسيادة الذاتية على السد، والمحتمي بمواقف الدول التي يشارك مستثمروها في إنشائه، وليس بالقرار السوداني، الذي حتى بانضمامه لمصر لا يضعف الموقف الإثيوبي، بل قد يؤدي إلى معادلة صفرية تعود بالمفاوضات إلى المربع الأول من جديد، منذ ما قبل توقيع اتفاق المبادئ في مارس/آذار 2015.
وفي 11 يونيو/حزيران الماضي، أعربت مصر والسودان سوياً، كل في بيان خاص، عن تحفظهما على الخطط الإثيوبية لكونها تمثل تراجعاً كاملاً عن المبادئ والقواعد، التي سبق وأن توافقت عليها الدول الثلاث في المفاوضات التي جرت بمشاركة ورعاية الولايات المتحدة والبنك الدولي، بل إهداراً لكافة التفاهمات الفنية التي تم التوصل إليها في جولات المفاوضات السابقة.
يذكر أن السيسي حسم في خطاب له في 28 يوليو/تموز الماضي الخيارات المصرية المتاحة، قاصراً إياها على التفاوض ومشاركة الشعب المصري مع الحكومة في المشروعات التي تهدف إلى تقليل الأضرار الحتمية الناتجة عن إنشاء السد وتشغيله وملئه. ورفض التلويح بتهديد الإثيوبيين، منتقداً من يدعون للعمل العسكري أو التخريبي للسد بقوله: "مع احترامي لكل الآراء.. انت قلقان ما تهددش حد وما تتكلمش كتير بكلام مالوش لزوم". وأوضح أن مصر تؤمن بحق الآخرين في التنمية "مثلها"، وفي نفس الوقت اقتسام جميع الأطراف للأضرار المتوقعة فيما بينهم. واستطرد: "يجب كل واحد فينا يكون أسداً صغيراً في مجاله، لنصبح سوياً أسداً كبيراً. الأسد محدش بياكل أكله ومحدش يجور على حقه".
تتفق مصر والسودان على معارضة رغبة إثيوبيا في تحويل الاتفاقية إلى اتفاق للمحاصصة في مياه النيل
وفي مايو/أيار الماضي، كشفت "العربي الجديد" عن نشر منظومات دفاع جوي متطورة حول سد النهضة، استعدادا لأي هجوم مصري محتمل، وأن إثيوبيا حصلت على المنظومات الجديدة من روسيا وأوكرانيا، وتم تجريبها في عدة مناسبات مطلع العام الحالي، قبل نقلها إلى ولاية بني شنقول التي يقع فيها السد. كما أن بعض المنظومات تم إدخال تعديلات عليها بواسطة الشركة العسكرية للمعادن والهندسة (ميتيك) التابعة للجيش، والتي أجرى رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد تعديلات واسعة على هيكلها الإداري منذ صعوده للسلطة لتحسين جودة عملها، علما أنها كانت تشارك سابقاً في عمليات إنشاء أجزاء من سد النهضة.
وتزعم إثيوبيا أن مصر ليس لها الحق في أن تتداخل مع إثيوبيا في كيفية إدارة السد إلا بعد الوصول إلى مستوى التخزين الذي يؤثر فعلياً على حصتها من المياه، علماً أن كل توربينات السد ستكون جاهزة للعمل عند اكتمال تخزين كمية 18.4 مليار متر مكعب. ما سيؤدي إلى تناقص منسوب المياه في بحيرة ناصر جنوب السدّ العالي سوف يتناقص بشكل كبير، خصوصاً إذا انخفض منسوب الفيضان في العامين المقبلين، ليقل عن مستوى 170 متراً، مما يعني خسارة 12 ألف فدان من الأراضي القابلة للزراعة في الدلتا والصعيد كمرحلة أولى، من إجمالي 200 ألف فدان تتوقع وزارة الموارد المائية والري المصرية خروجها نتيجة المدة الإجمالية للملء.