يعكس التوقيت الذي اختارته كندا للكشف عن استراتيجيتها الاقتصادية والدبلوماسية الجديدة لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ، والتي استخدمت فيها عبارات وصفها متابعون بـ"الخشنة" حيال الصين، حدّة الصراع بين جارتها، الولايات المتحدة والصين، بعكس أجواء التهدئة التي أشاعها لقاء الرئيسين الصيني والأميركي، شي جين بينغ وجو بايدن، على هامش قمة الـ20 التي جمعتهما في 15 نوفمبر/تشرين الثاني الحالي في إندونيسيا.
وفيما تحاول أوتاوا التمايز عن أميركا برفع مستوى التركيز على الملف الحقوقي، إلا أن السياسة الخارجية الكندية تبقى متناغمة مع نظيرتها الأميركية، من حيث الخطوط العريضة الأساسية. ويتساءل مراقبون عما إذا كانت كندا ستلتزم بجميع ما أرفقته في استراتيجيتها الآسيوية الجديدة، أم أنها مجرد ردّ على تنامي الخلاف، لا سيما بعد "التوبيخ" الذي ناله رئيس الحكومة جاستن ترودو من شي على هامش قمة الـ20.
اعتقال في فانكوفر
ويتخطى التصعيد الكندي حيال الصين، من دون شك، توبيخ الرئيس الصيني لرئيس الوزراء الكندي، بحسب ما نقلت عدسات الكاميرا، على هامش قمة بالي، بعدما أبدى شي امتعاضه من تسريب مسؤولين حكوميين كنديين لفحوى مباحثات كندية – صينية أجريت في إندونيسيا.
وأعاد توقيت كشف حكومة ترودو، أول من أمس الأحد، عن استراتيجيتها، التي وصفت فيها الصين بالدولة "المُزعجة"، التذكير بالقمة التي جمعت شي والرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، على هامش قمّة الـ20 في الأرجنتين، في ديسمبر/كانون الأول 2018، حين التقيا في محاولة لتخفيف التوترات التجارية، فيما كانت السلطات الأمنية الكندية في الوقت ذاته تقوم بتوقيف المديرة التنفيذية في شركة "هواوي" الصينية العملاقة للاتصالات، مينغ وانتشو، وهي ابنة مؤسس الشركة رين جينغ.
أحدث اعتقال ابنة مؤسسة "هواوي" في فانكوفر عام 2018 شرخاً في العلاقات الصينية - الكندية
حينها، تمنى المسؤولون الصينيون، لو لم تكن أوتاوا تعمل إلى هذا الحدّ بمنطق "التبعية" للإملاءات الأميركية.
وكانت صحيفة "وول ستريت جورنال"، قد كشفت في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، تفاصيل كثيرة عن المفاوضات السرّية التي دامت 3 سنوات، بين الصين والولايات المتحدة، لإطلاق سراح وانتشو، بعملية تبادل شملت مواطنين كنديين، هما مايكل سبافور ومايكل كوفريغ، كان جرى اعتقالهما في الصين بعد أيام قليلة من اعتقال وانتشو في فانكوفر. وأكدت الصحيفة، أن لائحة اتهام كانت أعدتها السلطات القضائية الأميركية حيال وانتشو، بتهمة تعامل "هواوي" مع إيران، وأعطى مستشار الأمن القومي لترامب آنذاك، جون بولتون، الضوء الأخضر لاعتقالها في فانكوفر، مغامراً حتى بلقاء شي وترامب في الوقت ذاته. وبحسب "وول ستريت جورنال"، فإنه ليس معروفاً إلى الآن ما إذا كان بولتون قد أبلغ ترامب مسبقاً بأن ابنة مؤسس "هواوي" سيُلقى القبض عليها.
وباختصار فإن أوتاوا لم تسلّم وانتشو إلى واشنطن، وأبقت عليها في اعتقال من فئة "10 نجوم" في فانكوفر، في منزل الأخيرة الفخم. لكن الحادثة أدّت إلى حدوث شرخ في العلاقات الصينية – الكندية، على الصعيد السياسي، من دون أن تتضرر كثيراً العلاقات التجارية الآخذة في التزايد بين البلدين، لا سيما أن كندا تبحث عن تنويع شراكاتها التجارية، وتبادلاتها التجارية، التي ترتكز بنسبة كبيرة على الجار الأميركي.
ومع ارتفاع حدّة الاهتمام الدولي، لاسيما من الغرب، ودول مجموعة السبع، التي تضمّ كندا، بمنطقة المحيطين الهادئ والهندي، نظراً لما تمثلّه من ثقل اقتصادي وديمغرافي وسياسي متزايد يجعلها لاعباً رئيسياً في تشكيل النظام الدولي، تجد كندا نفسها مرغمة على الكشف عن استراتيجيتها للمنطقة، التي لطالما وعدت بها، وناشدها رجال الأعمال الكنديون مراراً ألا تُضمّنها أي تصعيد أو إعاقة للأعمال مع الصين.
في المقابل، كانت دول آسيوية، مثل اليابان وكوريا الجنوبية، تحثّ أوتاوا على تنويع وتوسعة شراكاتها في المنطقة، وتعزيز التبادل التجاري مع هذه الدول، للتحرر أيضاً من الشريك الأميركي. وبرزت أهمية ذلك خصوصاً، بالنسبة لكندا، خلال مرحلة كورونا، ثم الحرب الروسية على أوكرانيا، والتي أظهرت مدى هشاشة سلاسل الإمداد العالمية، وضرورة تنويع الشراكات الاقتصادية والتجارية.
كندا أمرت في بداية الشهر الحالي، 3 شركات صينية بسحب استثماراتها من شركات كندية للمعادن الأرضية النادرة
وفي الاستراتيجية الكندية، المؤلفة من 26 صفحة، ذكرت كندا الصين 50 مرة، واصفة إياها بالدولة "المزعجة"، مؤكدة أنها موجودة في منطقة المحيطين الهادئ والهندي لـ"تبقى".
وأعلنت كندا عن تخصيص 2.3 مليارات دولار كندي (1.7 مليارات دولار أميركي) لتعزيز القدرات العسكرية والأمن السيبراني في منطقة الهادئ – الهندي، وتعهدت بالتعامل بما يناسب مع "الصين المزعجة"، والعمل معها في الوقت ذاته حول مسألة تغير المناخ والقضايا التجارية.
وقالت الوثيقة إن كندا سوف تشدّد قوانين الاستثمار الخارجي لحماية الملكية الفكرية، ومنع الشركات المملوكة للدولة الصينية من وضع اليد على سلاسل إمدادات المعادن الحيوية (الليثيوم خصوصاً) في كندا.
وكانت كندا قد أمرت في بداية الشهر الحالي، 3 شركات صينية بسحب استثماراتها من شركات كندية للمعادن الأرضية النادرة، مبرّرة الخطوة بأسباب تتعلق بالأمن القومي. وكان سبق ذلك تشديد كندا قواعدها للاستثمار في المعادن النادرة بالنسبة إلى الشركات التابعة لحكومات أجنبية، لتسمح بالاستثمار على أساس "استثنائي" فقط.
وبعد ذلك بأيام، اتهم رئيس الوزراء الكندي، الصين، بالتدخل في الانتخابات الكندية، وبأنها تمارس "أعمالاً عدائية"، بعد تقرير لمحطة "غلوبال نيوز" المحلية، تحدث عن تمويل بكين لمرشحين في الانتخابات.
أرض خصبة للخلافات الكندية - الصينية
وتجد العلاقات الصينية - الكندية، أرضاً خصبة للخلاف، بدءاً من قضية ابنة مؤسس "هواوي"، وهي قضية ترتبط خصوصاً بشبكة "5 جي" للاتصالات، والتنافس الغربي الصيني في هذا الإطار. كما تشمل المسألة التايوانية التي تعتمد أوتاوا حيالها الموقف الأميركي ذاته، مروراً برغبة كندا بالانخراط عسكرياً أكثر في منطقة الهادئ – الهندي، والتنافس التجاري، وصولاً إلى "الحرب الباردة" التي قليلاً ما يسلّط الضوء عليها في القطب الشمالي، وهي مسألة حسّاسة جداً بالنسبة لكندا، وحيث تواجه مع الولايات المتحدة ازدياد النفوذ الصيني والروسي.
ولهذه الأسباب، شرح وزراء حكومة ترودو في فانكوفور الأحد، مضامين الاستراتيجية الجديدة، مؤكدين أنها أساسية للأمن القومي الكندي وتحقيق الأهداف الاقتصادية. وقالت وزيرة الخارجية الكندية ميلاني جولي: "سننخرط في الدبلوماسية لأننا نعتقد أنها مصدر قوة، لكننا في الوقت ذاته سنكون صارمين، ولذلك أصبح لدينا اليوم خطة شفافة جداً للتعامل مع الصين".
وبحسب الخطة، فإن حكومة ترودو تريد تنويع شراكاتها الاقتصادية والتجارية، وحيث يبلغ حجم التبادل التجاري مع الصين مثلاً، بحسب أرقام رسمية نشرت في سبتمبر/أيلول الماضي، 7 في المائة، بينما يبلغ مع الولايات المتحدة 68 في المائة. وتريد كندا الوصول إلى الأسواق الآسيوية، بعدما أصبحت الولايات المتحدة نفسها، لاسيما في عهد ترامب، أكثر تشدداً في الاتفاقيات التجارية.
وبحسب وكالة "رويترز"، فإن الوثيقة تظهر المعضلة التي تواجهها كندا في نسج علاقات صحية مع الصين، وهو بلد يمثل فرصاً هائلة للمصدّرين الكنديين، على الرغم من محاولة الصين رسم معالم النظام العالمي وفق "مبادئ وقيم تزداد ابتعاداً عن قيمنا"، بحسب الوثيقة. وأكدت الاستراتيجية أن التعاون مع ثاني أكبر اقتصاد بالعالم "ضروري لمعالجة بعض الضغوط الوجودية العالمية"، بما فيها التغير المناخي، الصحة العالمية، والانتشار النووي.
وقالت الوثيقة إن "الصين أصبحت قوة عالمية مزعجة بشكل متزايد"، وإن "مقاربتنا تعكس تقييمنا الواقعي وبأعين مفتوحة للصين اليوم. وفي المسائل الخلافية العميقة، سوى نتحدى الصين".
وقالت جولي في بيان، إن "مستقبل منطقة الهندي والهادئ هو مستقبلنا، فلدينا دور نؤديه في تشكيله، ولذلك يجب أن نكون شريكاً حقيقياً وموثوقاً" للحلفاء الغربيين. وشدّدت على أن "هذه الاستراتيجية تبعث رسالة واضحة: كندا موجودة في المنطقة لتبقى"، لافتة إلى أن خريطة الطريق تهدف إلى "تعميق التزامنا في المنطقة خلال السنوات الـ10 المقبلة، عبر زيادة مساهمتنا في السلام والأمن الإقليميين".
وتلحظ الخطة 5 محاور للعمل: تعزيز السلام والأمن، ولا سيّما عن طريق إرسال سفينة حربية إلى المنطقة، وتعزيز التجارة والاستثمار ودعم مشاريع "مساعدة دوليّة للنساء" وتمويل البُنية التحتية المستدامة وزيادة الحضور الدبلوماسي الكندي.
(العربي الجديد)