تشهد المنطقة القطبية الشمالية، ودائرتها التي تضم دول اسكندنافيا (النرويج، فنلندا، السويد)، تسارعاً ملحوظاً من الغرب لاستغلال انشغال روسيا في الحرب الأوكرانية لفرض سياسات أمر واقع، من أجل تطويق مساعي موسكو وبكين للتعاون في المنطقة.
ويشكل انضمام فنلندا إلى حلف شمال الأطلسي، والذي أصبح واقعاً بعد مصادقة البرلمان التركي على انضمامها ليل الخميس الجمعة، ما يشبه استكمالاً للدائرة الغربية المحيطة بروسيا في أقصى الشمال، بانتظار أن تكتمل بعد حل مسألة انضمام السويد للناتو.
وتعبّر المناورات العسكرية، والانتشار المتزايد من دول في حلف شمال الأطلسي من غير تلك المحاذية للدائرة القطبية، عن تسارع في توسيع محاولات الغرب عزل روسيا في المنطقة.
وتحت مظلة "الأطلسي"، أصبحت القوات الإيطالية والأسترالية تشارك كندا والولايات المتحدة في تدريبات مشتركة، بما في ذلك إنزال ليلي مظلي لمئات الجنود فوق قاعدة "فورت وينرايت" القطبية الأميركية في ولاية ألاسكا، وكذلك تدفع بريطانيا بقوات نحو قواعد أطلسية في منطقة ترومسو النرويجية، لتؤسس قاعدتها الخاصة إثر تمرينات في المنطقة، وغير بعيد عن حدود روسيا في الدائرة القطبية.
ووفقاً للباحث في الشأن الروسي والقطب الشمالي في "المركز الدنماركي للدراسات الدولية"، فليمنغ سبيدسبويل، الذي تحدث مع "العربي الجديد" فإنّ حلف الأطلسي يستغل ما يسميه مراقبون "ضعفاً روسياً في المنطقة"، خصوصاً بعد نقل موسكو لواء القطب الشمالي وزجه في حرب أوكرانيا وما ذكرته وسائل إعلامية غربية وأميركية لجهة أنّ اللواء "تلقى ضربات موجعة" على الأراضي الأوكرانية.
وأشار سبيدسبويل إلى أن انضمام فنلندا والسويد للأطلسي "سيعزز دائرة ممتدة (حول روسيا) لتكون جميع دولها من الأطلسي"، أي من البلطيق (إستونيا، لاتفيا، ليتوانيا) إلى الدائرة القطبية الشمالية.
فليمنغ سبيدسبويل: الأطلسي يستغل ضعف روسيا
الوضع المستجد على ضوء زيادة استعراض القوة العسكرية خلال الأشهر الماضية، يجعل الحركة العسكرية في القطب الشمالي غير مسبوقة منذ خمسينيات القرن الماضي (فترة الحرب الباردة)، وفقاً لمدير "مركز الأمن والمرونة في القطب الشمالي" في جامعة ألاسكا، تروي بوفارد، الذي تطرق في مقابلة مع القناة التلفزيونية الدنماركية "دي آر"، إلى المناورات التي انطلقت في ألاسكا بمشاركة نحو 9 دول غربية. وشملت المناورات مشاركة المظليين ونحو 8 آلاف عسكري غربي على امتداد شواطئ المحيط الهادئ نحو ألاسكا.
وبرأي بوفارد، فإنه من الواضح أن روسيا تعاني في المنطقة من تفرّد الغرب والأطلسي بها، والذي توقع تصاعده مستقبلاً. فخلال الأعوام الماضية، زاد الوجود العسكري الغربي في الدائرة القطبية الشمالية، بالتزامن مع سعي الصين إلى فرض وجود من نوع ما، وإن بطابع تجاري، بعنوان "الطريق البحري الشمالي". وشرعت بكين في بناء أسطول من كاسحات الجليد، لاستخدامها في المحيط المتجمد الشمالي للوصول السهل والسريع من آسيا إلى شمال روسيا وأوروبا.
استغلال الضعف الروسي
معظم التحركات الغربية تزايدت أخيراً، بما في ذلك التدريبات المدفعية للأطلسي، وبصورة خاصة على المدفعية والطيران في الدنمارك والنرويج، وتوسيع العسكرة في منطقة البلطيق، وعلى أراضي السويد، التي هدد السفير الروسي فيكتور تاتارينتسيف، بتحويلها إلى "أهداف مشروعة للصواريخ الروسية".
وتزايد الحديث عن دور ما لجيب كالينينغراد الروسي، الواقع بين بولندا وليتوانيا، في أية مواجهة ممكنة. وتأتي هذه المناورات، فضلاً عن التدريبات الأميركية في ألاسكا، في سياق استراتيجية غربية، بقيادة واشنطن، للتركيز مجدداً على القطب الشمالي. وسرّعت الحرب الأوكرانية منذ العام الماضي وتيرة هذه التحركات، في مقابل إجراء روسيا مناورات بهدف الدفاع عن مصالحها في الدائرة القطبية الشمالية، في منتصف شهر مارس/آذار الماضي.
من الملاحظ أيضاً، وفقاً لمحللين مختصين بالشؤون العسكرية في دول الشمال، أن التحركات الروسية تبدو أقل بكثير مما كانت في سنوات التنافس الماضية على القطب الشمالي، وإن جاءت المناورات الأخيرة كرد على دفع واشنطن بمزيد من طائراتها الحربية الحديثة في فبراير/شباط الماضي، بما فيها "أف 35" للتدرب فوق جزيرة غرينلاند الدنماركية بالقرب من كندا، وإعادة استخدام قاعدة "ثولا" في الجزيرة، التي أدت دوراً كبيراً في الحرب الباردة (1947 ـ 1991).
سمحت الدنمارك لغرينلاند بالانضمام بشكل مستقل إلى حلف الأطلسي
وفي الفترة الأخيرة بدأت الدنمارك (أحد أعضاء مجلس القطب الشمالي، الذي يضمّها إلى جانب كندا وفنلندا وروسيا والسويد والنرويج والولايات المتحدة وأيسلندا)، بصورة علنية الترويج لسماحها لحكومة الحكم الذاتي في غرينلاند بالانضمام بشكل مستقل إلى حلف شمال الأطلسي.
وتندرج الخطوة في سياق تعزيز الوجود الأميركي في الجزيرة، على وقع رغبة واشنطن بعقد اتفاقيات مع السلطات المحلية في غرينلاند، لضمان مستقبل وجودها العسكري.
وكان وزير الخارجية الدنماركي، لارس لوكا راسموسن، قد ذكر قبل أيام، أن تعزيز وجود الأطلسي في المنطقة القطبية "يهدف إلى منع روسيا من الإخلال بحرية الإبحار في أقصى شمال المحيط الأطلسي، وبالتالي مواجهة التحدي الروسي"، وذلك في تبرير لزيادة العمليات والتمارين العسكرية الغربية، سواء في الدنمارك أو في غرينلاند.
تهديد مصالح... واستقطاب متزايد
تخشى روسيا على مصالحها الاستراتيجية في المنطقة، إذ إن أقصى الشمال الروسي يحتل نحو نصف شواطئ القطب الشمالي، ويضم حوالي 90 في المائة من إنتاج الغاز الروسي الحالي و60 في المائة من إنتاج النفط.
وتقدم الغرب في القطب الشمالي يضاعف مخاوف روسيا من تأثر مصالحها، خصوصاً بعد تعرّضها لضربة اقتصادية موجعة بفعل تجميد أوروبا وصول الغاز عبر أنابيب "نورد ستريم"، فضلاً عن تفجير خطي "نورد ستريم 1" و"نورد ستريم 2"، في سبتمبر/أيلول الماضي. ومع استكمال عضوية فنلندا، والسويد لاحقاً، في حلف شمال الأطلسي، تزداد تلك المخاوف.
من الواضح أن عزلة روسيا في "مجلس القطب الشمالي"، ستزيد بعد تصديق عضوية هلسنكي في الأطلسي، ويتوقع نفس الأمر لاستوكهولم، بالتالي تسعى موسكو إلى جذب بكين لتوسيع هامش المناورة مع الغرب.
والزيارة الأخيرة للرئيس الصيني شي جين بينغ إلى موسكو، الشهر الماضي، حملت بعض التلميحات حول التعاون بين البلدين في القطب الشمالي، الذي عملت الصين منذ عقد على استغلاله، مع نشوء التغيرات المناخية للاستفادة منه، والآن تعمل على زيادة وجودها فيه. في المجمل، يبدو التسابق في القطب الشمالي ودائرته ذاهبا بدول مجلسه، وأخرى من خارجه تحت مظلة الأطلسي، إلى فرض استقطاب يعيد أجواء الحرب الباردة، وإن كان واضحاً أن الجانب الغربي أكثر ميلاً نحو عسكرة المنطقة.
ووفقا للمهتمين بالتطورات في المنطقة، فإن سمات الاستقطاب الحالي والمستقبلي لم تعد فقط بين روسيا ودول "مجلس القطب الشمالي"، الذين يرفضون أصلاً التعاون مع روسيا منذ مارس 2022 على خلفية غزوها لأوكرانيا، بل يدخل العامل الصيني من بوابة التعاون مع موسكو.