أثارت الإيقافات المتلاحقة الأخيرة في صفوف حركة النهضة التونسية تساؤلات حول نوايا السلطة تجاهها، وإن كانت تستهدف منعها من عقد مؤتمرها الـ11 نهاية شهر أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، أم إنّ الهدف هو سجن أبرز قياداتها وتخويف قواعدها، وشلّها نهائياً بهدف استبعادها من المشهد أو تحجيم دورها في المعارضة على الأقل، أو إنها تتعلق فعلاً بملفات فيها تجاوزات قضائية؟
وأمس الثلاثاء، ألقت السلطات التونسية القبض على رئيس الحركة بالنيابة، منذر الونيسي، وعلى رئيس مجلس الشورى، عبد الكريم الهاروني، الذي كان قد وُضع تحت الإقامة الجبرية، السبت الماضي، أي ليلة عقد مجلس شورى النهضة الذي نظر في عقد المؤتمر.
ويقبع في السجن أهم قيادات الحركة التاريخية، رئيسها راشد الغنوشي، ونائباه، نور الدين البحيري، وعلي العريض، والوزير السابق رياض بالطيب، والقياديون الصحبي عتيق، والحبيب اللوز، وسيد الفرجاني، وقيادات جهوية وإدارية ومحلية عديدة أخرى، وحتى مستقيلون منها على غرار عبد الحميد الجلاصي ومحمد بن سالم.
وكانت النهضة قد علقت السبت على وضع الهاروني تحت الإقامة الجبرية معتبرة أنه "إجراء تعسفي جاء استباقا لاجتماع مجلس الشورى، في محاولة للضغط على المجلس الذي يتابع الاستعدادات لعقد المؤتمر الحادي عشر للحركة أواخر شهر أكتوبر/ تشرين الأول القادم".
وعبرت الحركة عن "تمسكها بالمسار الديمقراطي وبحقها في النشاط القانوني واعتماد المنهج السلمي والعمل على عقد المؤتمر الحادي عشر في موعده المقرر من طرف مجلس الشورى".
وقالت إنّ "هذا القرار يؤكد مرة أخرى النزعة التسلطية وتعمد السلطة الاعتداء على الحقوق والحريات الفردية والعامة والتضييق على الأحزاب ومحاصرتها بهدف نسف المسار الديمقراطي برمته والعودة بتونس إلى مربع الحكم الفردي".
وأكدت رفضها التضييق الممنهج على الحركة ومؤسساتها ورموزها القيادية واعتبرته تقييداً لحرية النشاط السياسي ومحاولة جديدة من حلقات إضعاف الصف المعارض لسلطة الانقلاب.
البحث عن إدانة لقيادات النهضة
بدوره، استبعد عضو المكتب التنفيذي في "النهضة"، بلقاسم حسن، اليوم الأربعاء في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن يكون الاستهداف الأخير على خلفية المؤتمر، مشيرًا إلى أنه "لو كان الاستهداف على خلفية إجراء المؤتمر لجاءنا رد من السلطة بعدم الموافقة" على عقده، مشدداً على أن "هذا الحدث طارئ ومتعلق بالتسريبات المنسوبة لمنذر الونيسي".
وتابع: "لم يقل أحد إن هذه التسريبات تلزم حركة النهضة، وإن ثبتت فإنها ستلزم منذر الونيسي، وإن لم تثبت فسيحاسب الونيسي مفتعليها.. نحن في حركة النهضة قلنا ليأخذ القضاء مجراه، وهياكل الحركة أيضاً ستدرسه".
وأشار إلى أنّ "هناك إثارة لقضايا في علاقة بالتعيينات الإدارية بالنسبة لإيقاف الهاروني وحمادي الجبالي، ولكن يوجد في الحقيقة من يبحث عن إدانة لقيادات النهضة وتلفيق ملفات، ولكن هذا يتطلب إثباتات، إلا أن وجود رئيس الحركة ونائبيه اليوم في السجن أكبر دليل على ذلك".
وأفاد بأن "هناك استهدافاً للنهضة دون شك، وهناك اتهامات بلا أدلة.. نحن لدينا ثقة في القضاء ومتمسكون بقرينة البراءة، المتهم بريء حتى تثبت إدانته، وليس متهماً حتى تثبت إدانته"، بحسب قوله.
محاولة إحداث فراغ داخل النهضة
أما وزير الخارجية الأسبق والقيادي في حركة النهضة رفيق عبد السلام، فقد قال على صفحته في "فيسبوك"، إنّ "فرض الإقامة الجبرية على عبد الكريم الهاروني رئيس مجلس الشورى، قبل يوم واحد فقط من انعقاد دورته الجديدة، هو جزء من استهداف القيادات التاريخية في النهضة، والعمل على شل مؤسساتها، في محاولة لإحداث فراغ داخلي وتمرير أجندة انقلابية على طريقة ما جرى مع بعض الهيئات والمنظمات الوطنية سابقاً وراهناً".
ودعا أنصار الحركة إلى "الالتزام بخطهم السياسي العام الذي عبرت عنه النهضة منذ يوم 25 يوليو/ تموز 2021، عبر قياداتها التاريخية وسائر بياناتها لاحقاً، مع الانتباه لمخاطر الاختراق الانقلابي بجر الحركة لقضايا وأولويات لا علاقة لها بالشأن الوطني"، كما دعاهم إلى "التشبث بالعمل المشترك في إطار جبهة الخلاص الوطني".
وبحسب عبد السلام، فإنّ "الأجندة الانقلابية تنتقل الآن من التخطيط لضرب النهضة والإجهاز عليها على طريقة النظام البائد، إلى العمل على تحريفها عن مسارها العام وإرباكها داخلياً، تحت وابل من الضغط الأمني والسياسي ومصادرة المقرات وتعقب القيادات والمناضلين، في محاولة بوليسية لجرّها الى خط التملق والمبايعة استعداداً لانتخابات مصنوعة على المقاس".
إزالة الحواجز أمام مشروع قيس سعيّد عبر ملفات قضائية
في المقابل، اعتبر الباحث سامي براهم، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنّ "الرئيس (قيس سعيّد) يريد من خلال حملة الاعتقالات إزالة كل الحواجز من أمام مشروعه، ولكنه لا يريد أن يزيحها بطريقة أمنية كما كان عليه الأمر قبل الثورة (في التسعينيات من القرن الماضي عندما تم الزج بالمئات في السجون)، ولكن عبر ملفات قضائية وتهم، محاولاً أن يجد مسوغات شرعية وقانونية في الظاهر لهذه الإزاحة".
ويرى براهم أنّ "من بقي في الساحة السياسية يمثل عائقاً هما المنظمة النقابية (الاتحاد العام التونسي للشغل)، وأكبر حزب في البلاد، (النهضة)، وأما البقية فلا تمثل أي حرج أو عائق أمام مشروعه. وفي هذا الإطار، يستهدف النهضة وهي اليوم عملياً حزب مجمّد، ولكن ما مدى هذا التجميد؟".
ويقول إنّ "حل حركة النهضة بقرار سياسي أو إداري سيترك انطباعاً عاماً في الداخل والخارج بأنه استهداف غير مبرر وبالتالي يجب إيجاد ملفات قضائية تبرر هذا الحل".
وشدد على أنّ "حل حركة النهضة مطروح في الساحة، إذ تطرح لائحة في البرلمان الحالي لتصنيف النهضة حركة إرهابية كما يقول، عدا عن مطالبة أنصار الرئيس عبر صفحاتهم في وسائل التواصل، بحلّها".
وبحسب برهم فإنه "من المطروح أن لا ينعقد المؤتمر أو أن ينعقد ويقصي القيادة التاريخية، ولكن مجرد انعقاده لإعطاء نفس جديد للنهضة أو بقيادة ليس لها خيار التطبيع مع المشهد لن يكون محل قبول من الجهات الرسمية، إضافة إلى أن عقد المؤتمر وعدمه محل تجاذب داخل النهضة نفسها".
ورأى أنّ "مشهد النهضة الحالي هو نتيجة طبيعية لعدم التداول على قيادة الحركة لمدة طويلة.. منع التداول ترك فراغاً سياسياً واضحاً، ودليل ذلك عندما غاب رئيس الحركة لم تكن هناك طبقة سياسية قادرة على صناعة مبادرة جديدة".
وقال براهم "من ناحية أخرى، حزام الرئيس (قيس سعيّد) ليس متجانساً وهو جزء من المعارك السياسية القديمة، والبعض منه يحرض على النهضة وعلى إعادة سيناريو التسعينيات وإنهاء وجودها جذرياً، ربما ليس بطريقة أمنية وإنما بطريقة ناعمة من خلال تطهير الإدارة وبتر الأصابع الفاعلة".
وشدد على أنّ "النهضة تستمد شرعيتها من قواعدها ومن أناس محافظين لهم قضايا تعبر عنها النهضة جزئياً، ولكن النهضة لم تنجح في الانتقال من حزب إسلامي إلى حزب مدني عصري".
وتابع: "النهضة أنجزت خطوات للخروج من الإسلام السياسي ولكنها لم تخرج منه إلى حزب مدني بل إلى حزب هجين وهي ما زالت تحمل بقايا الإسلام السياسي، وبقيت تعيش صراع القديم والجديد".
واعتبر أنّ "مشروع النهضة التي تأسست من أجله انتهى، وكان يفترض أن تكون نهايته قد عبرت عنها لوائح المؤتمر العاشر الذي قيل فيه إن الحركة أنجزت ما يجعل تصنيفها في الإسلام السياسي غير ذي معنى، أي إنهم يقولون إنهم لم يعودوا إسلاماً سياسياً، ولكن هل فتح هذا على حزب جديد عصري مدني؟".
وبحسب قوله فإنّ "الإشكال الكبير ليس في أن مَن هو داخل السجن يريد أن يواصل ويحكم كما قال الونيسي (في التسريب الصوتي)، بل إن مَن في خارج السجن أيضاً يريد أن يبقى يحكم من هو داخله، لأنه مستفيد من ذلك.. هذا دليل على الفراغ السياسي الذي خلفه الغنوشي لأنه لم تعط الفرصة لمن له الكفاءة، وليس لعدم وجود أشخاص قادرين على ذلك، فهناك كفاءات كثيرة على غرار العجمي الوريمي أو نورالدين العرباوي مثلاً، ولكنهما غير قادرين على التقدم لإدارة ورئاسة النهضة لأنهما لم يعيشا تداولاً وديمقراطية وتدرباً على الحكم".