تمرّ العلاقات الروسية ـ الأميركية، بإحدى أسوأ محطاتها في الأيام الأخيرة، مدفوعة بشكل أساسي بالملف الأوكراني، الذي أصبح "كوبا" جديدة موروثة من صراع الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، في حقبة "الحرب الباردة" (1947 ـ 1991). وتحولت كلّ خطوة عسكرية، في أوكرانيا أو في البحر الأسود، إلى نقطة انطلاق لخطوة مماثلة سياسية تصعيدية من موسكو وواشنطن، قد تؤدي إما إلى أزمة طويلة تستمرّ إلى حين انتهاء ولاية الرئيس الأميركي جو بايدن في عام 2024، وإما إلى تسوية واسعة تُعيد إلى الأذهان العلاقة الدافئة بين روسيا ـ بوريس يلتسين وأميركا ـ بيل كلينتون في تسعينيات القرن الماضي. وحتى اللحظة تبدو جميع الاحتمالات متساوية، إذ لم يسفر الاتصال الهاتفي الذي أجراه بايدن، مساء أول من أمس الثلاثاء بنظيره الروسي، فلاديمير بوتين، عن اي اختراق، خصوصاً بعد إعلان الكرملين أمس الأربعاء أنه سيدرس اقتراحاً لعقد قمة بين الرئيسين معتبراً أنّ من السابق لأوانه الحديث عن مكان انعقاد اللقاء أو أيّ تفاصيل أخرى. ومنذ نحو شهر، عكفت روسيا على حشد قواتها في شبه جزيرة القرم الأوكرانية، التي ضمّتها عام 2014، وفي كراسنودار وروستوف على الحدود الشرقية من أوكرانيا. كما عززت انتشارها في بحر أزوف، المتفرّع من البحر الأسود، لمحاصرة السفن الأوكرانية العاملة هناك.
تكثفت المناورات الروسية والأوكرانية برّاً وبحراً
لم تكتفِ روسيا بذلك، بل أعلنت عن تنظيم مناورات بريّة عدة، وأرفقتها أمس الأربعاء، بالإعلان عن مناورات في البحر الأسود لـ"إزالة الألغام البحرية" التي وضعتها هي والبحرية الأوكرانية في عامي 2014 و2015. وفي المفهوم العسكري، فإنّ إزالة الألغام تُعتبر الخطوة الأخيرة التي تسبق أيّ عملية إنزال على الشواطئ. لكنّ أوكرانيا ردّت بعزمها على إجراء مناورات في خاركيف، المدينة الواقعة على الحدود مع روسيا، والبعيدة عن حوض دونباس، الذي يضمّ إقليمي لوغانسك ودونيتسك الانفصاليين. وخاركيف أساساً خط الدفاع الأول عن أوكرانيا حيال أيّ اجتياح روسي من جهة فورونيش، التي عززت موسكو قواتها فيها في الأسبوعين الأخيرين. في المقابل، تسعى الولايات المتحدة إلى ضمان أمن أوكرانيا، فكان الإعلان عن إرسال سفينتين أميركيتين، وفقاً لمعاهدة "مونترو" التي تنظّم الملاحة في البحر الأسود، قبل تردد أنباء أمس الأربعاء بشأن التراجع عن الخطوة. وترافق ذلك مع تأكيد واشنطن على "التزامها تقديم أسلحة لأوكرانيا لتتمكن من الدفاع عن نفسها ضد العدوان الروسي" بمثابة تأكيد أميركي على عدم السماح لروسيا بالتمدد في أوكرانيا. وفي حمأة التحشيد العسكري، أُعلن مساء أول من أمس الثلاثاء عن إجراء بايدن اتصالاً هاتفياً ببوتين. وأشار بيان صدر عن الكرملين إلى أنّ بايدن أكد دعوته السابقة إلى الرئيس الروسي لحضور "القمة المناخية" عبر نظام الـ"فيديو كونفرنس" يومي 22 و23 إبريل/ نيسان الحالي. وبحسب البيان، أعرب الجانبان عن استعدادهما "لمواصلة الحوار حول أهم مسارات ضمان الأمن القومي، مما لا يخدم مصالح روسيا والولايات المتحدة فحسب، بل ومصالح المجتمع الدولي بأسره". وتابع البيان أنّه "خلال تبادل وجهات النظر حول الأزمة الداخلية الأوكرانية" استعرض بوتين مواقف مبادئ التسوية السياسية المعتمدة على اتفاقات مينسك، لحل النزاع. غير أنّ بيان البيت الأبيض كشف أنّ الرئيس الأميركي أعرب لبوتين عن قلق الولايات المتحدة إزاء "الحشد المفاجئ للقوات العسكرية الروسية في القرم المحتلة وعلى حدود أوكرانيا، ودعا روسيا إلى منع التوتر" مضيفاً أنّ بايدن جدد "دعم الولايات المتحدة القوي لسيادة أوكرانيا وسلامتها الإقليمية". وجاء في البيان أيضاً أنّ بايدن تطرق إلى "التدخل الروسي" في الانتخابات الأميركية والاختراق الإلكتروني ضد المؤسسات الأميركية، مشدّداً على أنّ الولايات المتحدة "ستكون حازمة في الدفاع عن مصالحها القومية، رداً على تحركات روسيا مثل الهجمات الإلكترونية والتدخل في الانتخابات". واقترح بايدن عقد لقاء مع بوتين في دولة ثالثة، وهو ما ردّ عليه الكرملين بـ"درس الاقتراح"، لكنّه أكد أنّ "من السابق لأوانه الحديث عن عقد اجتماع بين الرئيسين". وعقب ذلك، أجرى بوتين اتصالاً بنظيره الفنلندي ساولي نينيستو، لبحث الأزمة الأوكرانية والمكالمة مع بايدن، لأنّ فنلندا استضافت لقاء القمة الأخيرة بين بوتين والرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في يوليو/تموز 2018. وعلى الرغم من الاتصال الأميركي ـ الروسي، إلا أن الأمور استمرت بالتصاعد، مع استدعاء موسكو، أمس الأربعاء، السفير الأميركي فيها جون سوليفان، إلى مكتب يوري أوشاكوف، مساعد بوتين. ووفقاً لوكالة "نوفوستي"، فقد تمّ إبلاغ السفير أنّ "موسكو سترد بشكل حاسم إذا فرضت واشنطن عقوبات جديدة على روسيا". وهو ما تنوي الولايات المتحدة فعله للردّ على التحشيد العسكري الروسي قرب أوكرانيا.
ألمانيا: ملتزمون الوقوف إلى جانب أوكرانيا
ومن المعروف أنّ لبايدن موقفاً متشدّداً من الروس، نابعاً من علاقته الشخصية معهم حين كان نائباً للرئيس الأسبق باراك أوباما. ففي عام يوليو/تموز 2009، زار أوباما موسكو، رفقة بايدن، ودعا إلى "انطلاقة منعشة" للعلاقات بين البلدين، بعد مرحلة من التصادم بين جورج بوش الابن وبوتين. حينها، كان ديمتري ميدفيديف رئيساً لروسيا، وبوتين رئيساً للوزراء. وبعد الزيارة بأيام أدلى بايدن بتعليقات صحافية جاء فيها أنّ "عدد سكان روسيا يتقلّص واقتصادها يذبل، بالتالي سيتعين عليها إجراء مجموعة من التعديلات على سياسة الأمن القومي الخاصة بها". واعتبر مراقبون أنّ حديثه كان يتمحور حول منع الروس من التأثير على الفضاء السوفييتي السابق، خصوصاً في جورجيا وأوكرانيا، اللتين زارهما بايدن. كما اصطدم بايدن مع موسكو خلال عمله في الكونغرس إلى جانب صديقه الراحل، السيناتور الجمهوري جون ماكين، على إعداد قانون في عام 1999 يتيح لإدارة كلينتون قصف القوات الصربية المدعومة من الروس، في كوسوفو. وتلقى واشنطن دعماً أوروبياً، مع اتهام وزيرة الدفاع الألمانية أنغريت كرامب كارنباور، أمس، روسيا بـ"الاستفزاز" عبر حشدها قوات على الحدود مع أوكرانيا. وقالت للإذاعة العامة الألمانية "آ ار دي"، قبل اجتماع لوزراء الدفاع والخارجية للدول الأعضاء في الحلف الأطلسي، إنّ "انطباعي هو أن الجانب الروسي يحاول كل شيء لإثارة رد فعل"، مضيفة "مع أوكرانيا لن يتم استدراجنا إلى هذه اللعبة". وأكدت الوزيرة المقربة من المستشارة أنغيلا ميركل: "إذا ادعى الجانب الروسي أنّ الأمر يتعلق بمناورات، فهناك قواعد دولية محددة لذلك من أجل ضمان الشفافية والثقة". وحول احتمال اندلاع نزاع مباشر بين موسكو وكييف، قالت: "نحن ملتزمون الوقوف إلى جانب أوكرانيا، الأمور واضحة" مشيرة إلى أنّه، في الوقت نفسه، من الواضح أيضاً أنّ الرئيس الروسي "ينتظر فقط خطوة (من أوكرانيا) نحو الحلف الأطلسي لاستخدامها حجة للتقدم".