حسمت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن أول أمس السبت أمرها بشأن المعارك الضارية في السودان، وقررت سحبت دبلوماسييها من الخرطوم وأقفلت سفارتها حتى إشعار آخر، بعد تردد لمدة أسبوع.
وأرجعت إدارة بايدن التردد إلى المخاطر الأمنية وإقفال المطار لتأجيل المغادرة وبالحاجة لبقاء طاقمها الدبلوماسي هناك "لمراقبة" تطورات الوضع. لكن بالنهاية كان عليها أن تخرج مثل غيرها بعد أن تبيّن أن الأحداث سبقتها، وأن المواجهة التي جرى الإعداد لها منذ فترة قد دخلت بسرعة في معركة كسر عظم ذات أبعاد تتخطى الساحة السودانية.
سياسة المناشدة ومحاولة الوقوف على مسافة واحدة من الجنرالين (عبد الفتاح البرهان قائد الجيش، ومحمد حمدان دقلو "حميدتي" قائد قوات الدعم السريع)، سواء بإدانة لجوئهما إلى القوة أو بدعوتهما لوقف إطلاق النار، بقيت غير مجدية. على العكس اشتدت العمليات وتوسعت بحيث صارت مفتوحة على جولات قادمة أطول وأكثر ضراوة، حسب التوقعات.
بذلك انتهى وقت التعامل مع الأزمة بلغة رمادية، خاصة وأن الحديث في واشنطن يتزايد حول أدوار لجهات خارجية مهدت أو دفعت نحو الحرب، لحسابات محلية وإقليمية. وعلى رأسها موسكو عبر مجموعة فاغنر العسكرية الروسية الخاصة، المعروف أنها تعمل تحت جناح الكرملين والمتواجدة منذ فترة في منطقة دارفور.
وفي الأيام الأخيرة تسلطت الأضواء على دور هذه المجموعة في تسليح أو عرض التسليح على الجنرال حميدتي، الذي تزايدت الروايات عن علاقاته بالمجموعة، والتي تتجاوز الشؤون العسكرية لتمتد إلى تقاسم المنافع والاستثمارات في مناجم الذهب في السودان.
الاستنتاج أن موسكو نجحت على ما يبدو في تحقيق اختراق في السودان كانت مادته جاهزة في علاقة التناحر على السلطة بين الجنرال عبد الفتاح البرهان ومنافسه اللدود الجنرال محمد حمدان دقلو. وهذا الاختراق في جانب منه محكوم بأن ينتهي إلى "أفرقة" تداعيات الصراع في السودان. وهذا ما يطرح تحدياً جديداً على إدارة بايدن التي أعربت عن عزمها افتتاح مرحلة جديدة في علاقات واشنطن مع القارة السوداء، خلال القمة الأميركية الأفريقية التي انعقدت في واشنطن في ديسمبر الماضي 2022 بحضور قيادات من 49 دولة أفريقية (من أصل 54). وفي ختامها أعلن الرئيس بايدن عن تخصيص 55 مليار دولار للاستثمار في بلدان أفريقية كتعبير عن الرغبة في "تعزيز الشراكة" والصداقة.
يذكر أن هذه النقلة في الاهتمام الأميركي بالقارة أتت في لحظة بدت واعدة لواشنطن في ضوء بدء تراجع النفوذ الفرنسي في أفريقيا وتوسيع الفرصة أمامها لمنافسة النفوذ الصيني هناك، أو على الأقل الحد من تمدده، ولو أن القارة كانت إجمالا خارج الأولويات الأميركية.
الآن تدخل روسيا على الخط، حسب القراءات الأميركية لتطورات السودان. الأمر الذي يضع واشنطن أمام الاختبار بالنسبة للسودان كما بالنسبة لجهات أفريقية مرشحة لتصيبها شظايا الصراع الجاري في الخرطوم.
في البيان الذي صدر عن البيت الأبيض السبت بعد الانتهاء من عملية سحب الدبلوماسيين من الخرطوم، قال الرئيس بايدن إن "التزام الولايات المتحدة بالسودان لا نهاية له". تعهده مفتوح ويحتمل أكثر من تأويل. هل تعتمد إدارته نسخة مصغرة من سيناريو أوكرانيا بتسليح الجنرال البرهان ضد نائبه حمدان لترجمة التزامها بنقل السلطة إلى المدنيين، علما بأن هذا الأخير "لم يكن متحمسا لمثل هذا الانتقال".
الواضح من المداولات الأميركية حتى الآن أن التحدي السوداني معقد
مثل هذا الاحتمال يتطلب موافقة الكونغرس على التمويل، في وقت بدأ فيه عتاة اليمين خاصة في مجلس النواب، إبداء اعتراضاتهم على تسليح أوكرانيا بحجة أنه إنفاق مرهق للخزينة الغارقة بديونها. وإذا كان هذا الخيار غير وارد خصوصا عشية افتتاح معركة الرئاسة لعام 2024، فهل تضغط واشنطن على الجوار لدعم البرهان باعتبار أن الأوروبيين منشغلون بما فيه الكفاية في دعم أوكرانيا؟ وفي حال تعذر ذلك فهل تتحمل إدارة بايدن تبعات نكسة جيوسياسية في أفريقيا قد يحشد لها الثنائي الروسي - الصيني لضمان حسمها لصالحه؟
الواضح من المداولات الأميركية حتى الآن أن التحدي السوداني معقد. وإضافة إلى ذلك جاء مفاجئا وخياراته ضيقة وأفضلها مكلف من كل النواحي. وهو يأتي في وقت تتوالى فيه التحديات الكبيرة من أوكرانيا إلى تايوان مرورا بإيران. ومن هنا بعض الدعوات لتغيير المسار باعتماد "استراتيجية جديدة" في حرب أوكرانيا تقوم على البحث عن مخرج دبلوماسي، كما ينصح ريشارد هاس رئيس مجلس العلاقات الخارجية.
وحتى من داخل الإدارة بدأت تعلو أصوات طبعا بالتنسيق مع البيت الأبيض، للعمل باتجاه احداث حلحلة وليونة في التعامل مع الصين، على ما قالت وزيرة الخزانة جانيت يلن في محاضرتها حول العلاقات الاقتصادية مع بكين، يوم الخميس الماضي في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جون هوبكنز بواشنطن.