يلقي وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن اليوم الاثنين، خطاباً في جامعة ماريلاند المجاورة لواشنطن، بعنوان "التجديد الداخلي كأولوية في السياسة الخارجية". الموضوع مأخوذ على ما يبدو من مقولة إن "كل السياسات محلية" التي كان يرددها تيب أونيل رئيس مجلس النواب الديمقراطي الشهير، أيام الرئيس رونالد ريغان في الثمانينيات.
والمقصود أن أي سياسة ومنها الخارجية، يتم اعتمادها بناء على معطيات وحسابات الوضع الداخلي. إذا كان هذا الأخير معافى في معظم جوانبه، تكون مساحة التعامل مع الخارج واسعة أمام الإدارة. والعكس صحيح. وعليه فإن ادارة الرئيس جو بايدن تراهن على نفض وتجديد هذا الوضع بمختلف جوانبه كحاجة تنموية وتغييرية وبالتالي "كأولوية" وشرط لتعزيز توجهاتها الخارجية.
وبالمناسبة، من المتوقع أن يوافق مجلس الشيوخ اليوم وبأكثرية وازنة فوق الستين صوتاً، على الجزء الأساسي من مشروع بايدن لتحديث البنية التحتية الأميركية بكلفة حوالي تريليون دولار. مشروع تجديدي هائل تحقق بتأييد مشترك جمهوري ديمقراطي في وقت كان التعاون بين الحزبين في الكونغرس مفقودا منذ سنوات، خاصة بمثل هذا الحجم. ومع ذلك راهن الرئيس وما زال على إحياء مثل هذه الشراكة وتجديدها ولو أنه من المستبعد تكرارها. خصوصا أن انتخابات الكونغرس القريبة، بعد حوالي سنة، ستطغى حساباتها على سواها.
في المبدأ، المعادلة صحيحة إلى حدّ بعيد. الداخل المرتاح يطلق يد الإدارة في الخارج. مثلاً، إدارة ريغان استندت إلى وضع اقتصادي جيد (هبوط كبير في البطالة وفي نسبة التضخم وبحبوحة في المداخيل) في تشدده مع الاتحاد السوفييتي وإطلاق سباق تسلح ساهم في إنهاك هذا الأخير. كذلك الرئيس بوش الابن استند هو الآخر في حروبه الكارثية إلى حالة ازدهار غير مسبوق انتقلت إليه من إدارة كلينتون الذي شهدت أميركا خلال رئاسته حالة ازدهار متميز انتهت معها سنواته الثلاث الاخيرة بفائض كبير في الموازنة.
لكن في حالة بايدن المسألة ليست كذلك. مشكلته في السياسة الخارجية لا تنبع من الأوضاع الداخلية. فهذه مالت في عهده حتى الآن على الأقل، نحو الانفراج ولو أنها ما زالت مهددة بمتحول دالتا وتداعياته المختلفة والمفتوحة على الأسواء. المشكلة أن المقاربة الخارجية لإدارته لا تبدو متماسكة. ويتبدّى ذلك في عدة ظواهر تتراوح بين الغموض والارتباك والتراجع عن مواقف بدا أنها كانت ردة فعل أكثر مما هي سياسة محسوبة. مثال ذلك تعامل الإدارة مع قضيتي اللجوء والهجرة، حيث تبرع الرئيس في بداية رئاسته بأرقام وتوجهات اضطر بالنهاية على التخلي عنها تحت ضغط انفلات التسلل عبر الحدود الجنوبية.
وكذلك اضطراره أمس لإرسال القاذفات الاستراتيجية ب -52 إلى افغانستان في محاولة لوقف اكتساح حركة طالبان للمزيد من المناطق والمدن، يشكك العارفون بجدواها. وتأتي هذه الخطوة بعد أن كان الرئيس قد طوى صفحة الحرب تماما خلافا لمشورة العسكريين الذين نصحوا بترك قوة وإن رمزية لفترة محدودة كما تردد. وثمة تساؤلات عما قد تقوم به واشنطن لو تهددت كابول بالسقوط في المدى القريب. وكأن هناك جدلا في الإدارة أو إعادة نظر تصحيحية لاستدراك ما يمكن استدراكه من تبعات "العجلة" في قرار الانسحاب الكامل. وفي هذا الصدد هناك من يذهب في القراءة إلى حد عدم استبعاد أن يكون من مقاصد الانسحاب إشغال إيران بوضع أفغاني جديد يخلق لها متاعب من شأنها أن تشكل عبئا إضافيا يربك دورها وبالتالي نفوذها في المنطقة.
هناك من يذهب في القراءة إلى حد عدم استبعاد أن يكون من مقاصد الانسحاب إشغال إيران بوضع أفغاني جديد
وقد انسحب هذا الغموض أيضا على موقف الإدارة من التطورات على الحدود اللبنانية الإسرائيلية في الأيام الأخيرة. فقد اكتفت ببيان من أسطر قليلة كان أغرب ما فيه مطالبة "الحكومة اللبنانية أن تقوم وبشكل عاجل بمنع مثل هذه الهجمات". وكأنها لا تعرف من هو صاحب القرار! ولوحظ أن نفس النص استخدمته اليوم الحكومة الإسرائيلية في بيانها عن الأحداث. والمعروف من السوابق أن مخاطبة لبنان بهذه الصيغة كانت غالبا مقدمة لاعتداءات إسرائيلية على لبنان. هل أنها تساعد اسرائيل في تمهيد الأجواء لمثل هذا الاحتمال؟ أم إنه تجهيل بغرض خفض النبرة حرصاً على ضبط الأمور بحيث لا تتفاعل إلى حدود تطيح بما تبقى من آمال في العودة إلى مفاوضات فيينا المحاطة هذه الأيام بتكتم وسط انتقادات وشكوك حول استمرار الإدارة في المراهنة عليها؟