نشرت إذاعة ''بي بي سي'' البريطانية، تسجيلات لمكالمات هاتفية قالت إنها تعود للرئيس التونسي الراحل زين العابدين بن علي، أثناء هروبه من تونس عام 2011.
وأكدت" بي بي سي" أنه تمّ تحليل التسجيلات من قبل خبراء صوت، لم يعثروا على أي دليل على حدوث أي تلاعب أو عبث فيها، مشيرة إلى أن التسجيلات تم إجراؤها أيام 13 و14 و15 يناير/كانون الثاني 2011، مع شخص يُعتقد أنه رجل الأعمال المستثمر في المجال السينمائي والإعلامي طارق بن عمار، ومع وزير الدفاع حينها رضا قريرة، وقائد الجيش رشيد عمار، ورجل الأعمال كمال لطيف.
وتمحورت المكالمة بين بن علي ووزير الدفاع حينها، حول ما يجري في تونس، فأخبره قريرة بأن محمد الغنوشي، الوزير الأول في ذلك الوقت، قد أعلن أنه سيتولى زمام الأمور في البلاد، لكن بن علي طلب من قريرة تكرار هذه المعلومة ثلاث مرات، قبل أن يردّ بأنه سيعود إلى تونس "في غضون ساعات قليلة".
وبعد ذلك، اتصل بن علي برجل تعتقد "بي بي سي" أنه رجل الأعمال كمال لطيف، وقال بن علي للطيف إن وزير الدفاع طمأنه بأن الأحداث تحت السيطرة، ولكن لطيف قال: "لا، لا، لا، الوضع يتغير بسرعة والجيش لا يكفي"، فقاطعه بن علي وسأله: "هل تنصحني بالعودة الآن أم لا؟"، وكان عليه أن يكرر السؤال ثلاث مرات قبل أن يجيب لطيف: "الأمور ليست جيدة".
ويؤكد النائب السابق محمود البارودي، أنه بحكم صداقته بكمال لطيف، فإن الأخير أكد له اليوم الجمعة، صحة التسجيل. وقال البارودي لإذاعة "الديوان" المحلية إن لطيف أكد أن هذه التسجيلات ليست جديدة، وأنه بالفعل نصح بن علي بعدم العودة إلى تونس.
وبحسب" بي بي سي"، اتّصل بن علي أيضاً بمن يبدو أنه قائد الجيش حينها الجنرال رشيد عمار، ولكن يبدو أن هذا الأخير لم يتعرف على صوته، مما حدا ببن علي أن يقول له: "أنا الرئيس". ومرة أخرى، طرح بن علي على عمار السؤال نفسه "هل يجب أن أعود إلى تونس الآن؟"، فيخبره أنه من الأفضل له "الانتظار بعض الوقت".
واتّصل بن علي بوزير دفاعه مرة أخرى، وسأله مجدداً ما إذا كان يجب أن يعود إلى تونس، ولكن قريرة كان أكثر صراحة هذه المرة، إذ قال لبن علي إنه "لا يمكنه ضمان سلامته" إذا فعل ذلك.
وتتقاطع هذه التسجيلات مع إفادات وشهادات كثيرة لعدد من الشخصيات المذكورة في التسجيلات أو غيرها، في التحقيقات الرسمية أو شهادات إعلامية في تقارير مختلفة لعدد من المواقع أو حتى مراكز البحث المعنية بالتأريخ لتلك المرحلة.
ومن بين هذه الشهادات المهمة، ما أورده الرئيس المؤقت فؤاد لمبزع، رئيس مجلس النواب الذي تولّى مهام الرئاسة وقتها، والذي قال لإذاعة "كلمة" (لم تعد موجود الآن)، إن الرئيس تحدث معه على الهاتف خلال الاتصال نفسه الذي جرى مع الوزير الأول، محمد الغنوشي، في القصر الرئاسي، وقال له يجب إلغاء كل هذه الإجراءات لأنني عائد إلى تونس، فأجابه بأن العودة لا سبيل إليها.
ويروي العقيد سامي سيك سالم، الذي كان مسؤولاً في الأمن الرئاسي، أنه بعد بث بيان نقل السلطة بعد خروج بن علي، عبر التلفزيون، "وبينما كنّا في أحد المكاتب في الديوان الرئاسي، جاء ضابط وخاطب الوزير الأول محمد الغنوشي مباشرة "السيد الرئيس يطلبك"، لم أستمع لما دار بينهما، لكنني استنتجت أنه لامه على الكلمة التي ألقاها وهدده بأنه سيعود فجراً إلى تونس".
ومن بين الشهادات أيضاً، ما أورده الباحث الأستاذ عبد الجليل التميمي، نقلاً عن العميد محمود شيخ روحو، قائد الطائرة التي نقلت بن علي إلى جدة مساء 14 يناير 2011، حيث يروي كيف أن المدير العام للشركة التونسية طلب منه تهيئة الطائرة الرئاسية بسرعة فائقة، مشدداً على توفير عدد ضئيل من الموظفين لنقل زوجة الرئيس وتوجهها إلى جدة. وقد طلب من الفنيين الاستعداد لذلك مع الطيار القائد وطيارَين مساعدَين اثنين لتأمين الرحلة. وعند الساعة الخامسة بعد الظهر، أعددت الطائرة من القاعدة العسكرية للعوينة، وكان من المستحيل الحصول على الوثائق الضرورية والتزود بالوقود في ظروف أمنية عادية، ولدى وصول بن علي وأفراد عائلته، وهم: زوجته، وابنته حليمة وخطيبها، وابنه محمد، وسيدتان آسيويتان كانتا الحاضنتين ورجل وسيدة أخرى بدت لنا أنها إحدى أخوات بن علي، كان النزول دقيقاً في ظروف جوية صعبة".
وأضاف: "تعرضنا إلى زوابع ونزول أمطار قوية جداً، وقد طلب منا بن علي قبل مغادرة الطائرة، أن نتوجه للاستراحة في النزل وأنه سيتصل بنا لإعداد رجوعه لتونس، ولكن على إثر النزول، واطلاع بن علي على الوضع التونسي، اتخذ قرار الرجوع لتونس، إلا أني عند اتصالي بالمدير العام أعطيت الإذن بعودة الطائرة (من دون ركاب). وقد حللنا بمطار تونس عند الساعة 5 صباحاً، وسلّمنا الطائرة وكل الأجهزة إلى أحد مسؤولي الجيش الذي استقبلنا على إثر رجوعنا، وحررنا محضر التسليم".
وتكشف كل هذه التسجيلات بعض خفايا محاولات النظام الأخيرة لاستعادة السلطة، بعد الثورة العارمة التي فاجأت الجميع، وأفقدت النظام أي قدرة على استعادة المبادرة من جديد، ولكنها تكشف في الوقت نفسه عمق الخلافات التي كانت موجودة بين أجهزة الدولة.