بعد سنوات من الاعتراض على خط أنابيب الغاز نورد ستريم 2 على بحر البلطيق، تخلت الولايات المتحدة الأميركية عن مقاومتها للمشروع، ووافقت على استكماله، مقابل التزامات مالية ألمانية لمساندة قطاع الطاقة لدى أوكرانيا، وشروط أخرى، حيث تتعهد برلين باتخاذ إجراءات ضد موسكو، والعمل على المستوى الأوروبي لفرض عقوبات على روسيا، سواء في قطاع الطاقة أو في أي منطقة اقتصادية أخرى ذات الصلة. فهل شكل الاتفاق انتصاراً في السياسة الخارجية للمستشارة أنجيلا ميركل مع نهاية فترة حكمها التي دامت 16 عاماً، بعد تمهيد الطريق لإنهاء المشروع المكتمل بنسبة 98%، في أكثر مشاريع الطاقة إثارة للجدل في التاريخ الأوروبي، وحيث من المقرر أن يبدأ خط الأنابيب البالغ طوله 1200 كيلومتر في تصدير الغاز الروسي إلى أوروبا هذا العام، متجاوزاً بولندا وأوكرانيا.
ورغم أن جوهر الاتفاق يكمن في كيفية منع موسكو من إساءة استخدام خطوط الأنابيب الخاصة بها كأدوات للابتزاز السياسي ضد أوكرانيا، أشارت صحيفة "شبيغل أونلاين"، إلى أنه في الواقع، إن اهتمام ميركل بالمشروع يحمل بعداً سياسياً، وهو ما اعترفت به المستشارة في عام 2018، بعد أن كانت قد اعتبرته لسنوات طويلة أنه اقتصادي بحت، ويعود ذلك لكونها باتت مقتنعة بأن من مصلحة ألمانيا وأوروبا الحفاظ على العلاقات الاقتصادية مع روسيا، على الرغم من كل الصعوبات.
وبيّنت "شبيغل" أن من وجهة نظر الحكومة الاتحادية، فإنّ صادرات الغاز تخلق تبعية متبادلة، مع الميل إلى استقرار العلاقات بين روسيا وأوروبا، في ظل القناعة لدى الاتحاد الاوروبي بأن بإمكانه دائماً التحول إلى الغاز الطبيعي المسال إذا ما استخدمت موسكو غازها فعلياً بطريقة ابتزازية.
وفي السياق، برزت تعليقات تفيد بأن الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسن، هدد ذات مرة بأنه "إذا ما اضطررنا، سنبيع أسلحتنا للشيطان، ولن نتوسل أوروبا لمساعدتنا"، وفُهم من هذا التصريح، وقتذاك، أن موسكو مستعدة لبيع أسلحة نووية لإيران. علاوة على ذلك، أصبح خط الأنابيب بشكل متزايد بالنسبة إلى برلين مسألة تتعلق بالسيادة الوطنية، بعد أن قام ريتشارد غرينيل، سفير الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب لدى ألمانيا، بتوبيخ الألمان علانية، وتهديده الشركات الألمانية بإجراءات عقابية.
في المقابل، وجد الرئيس الأميركي الجديد، الديمقراطي جو بايدن، نفسه في موقف صعب، لأنه بالكاد يمكنه منع استكمال خط الأنابيب، وإذا كان الأمر كذلك، فعندئذ فقط على حساب حرب اقتصادية ضد أهم شريك في الاتحاد الأوروبي، وفي النهاية لم يكن الأمر بالنسبة إليه يستحق المخاطرة بذلك من أجل خط أنابيب غاز شبه مكتمل، وبخاصة أن واشنطن مهتمة بضم الأوروبيين إلى مصلحتها ضد منافستها الصين، لا بل أكثر من ذلك، فإن أفراداً من إدارة بايدن يحاولون نقل المسؤولية إلى الرئيس السابق دونالد ترامب، الذي هاجم لفظياً مشروع نورد ستريم 2، ولم يفعل الكثير عملياً.
ويوضح الاتفاق بعد حلّ نقاط الاعتراض الأميركية الجيواستراتيجية والاقتصادية، أن برلين وواشنطن تريدان تنسيق سياستهما تجاه روسيا وأوكرانيا بشكل أوثق في المستقبل، وألا تقع كييف ضحية تشغيل المشروع، على أن تلقى دعماً كبيراً في تحديث قطاع الطاقة لديها وتحويله إلى الطاقة الخضراء لخلق استقلال أكبر في مجال الطاقة عن روسيا.
ولهذا الغرض، ستساهم ألمانيا، من بين أمور أخرى، بمبلغ 148 مليون يورو، على أن يصل حجم الدعم المالي إلى مليار يورو. مع العلم أن المستشارة جددت وعدها لأوكرانيا عند زيارة رئيسها لبرلين أخيراً، بضمان استمرار كييف في المشاركة في نقل الغاز الروسي وتمديد الاتفاقية التي تنتهي في عام 2024، علماً أن برلين ستعيّن مبعوثاً خاصاً لبدء المحادثات بين الجانبين قبل الأول من سبتمبر/ أيلول المقبل، وحيث من المفترض أن تمدد الاتفاقية لمدة 10 سنوات، إذ تدرك ألمانيا أن عبور الغاز أوكرانيا جزء من محفظة الغاز بأكملها للاتحاد الأوروبي، وربما الوصول إلى حل سلمي للنزاع في شرق أوكرانيا.