كل المؤشرات الراهنة تؤكد أن المنطقة المغاربية تعيش مرحلة مخاض كبير، وتشهد إعادة بناء جديدة للعلاقات والمحاور. أكثر من أي وقت مضى، بات تركيز الفاعل الدولي على هذه المنطقة، فيما مشروع التطبيع يريد أن يعزز موقع قدمه فيها. ولذلك يبدو أن تصريح وزير الخارجية الجزائري، رمطان لعمامرة، في مؤتمر دول جوار ليبيا الذي انعقد على مدى اليومين الماضيين في الجزائر، عن أن "هناك مخططات لبعض القوى الأجنبية، الساعية لتعزيز نفوذها في ليبيا واستعمال التراب الليبي كمنصة لإعادة رسم التوازنات الدولية، انطلاقاً من هذه المنطقة الحساسة، على حساب المصالح الاستراتيجية لليبيا وجيرانها"، يأخذ معناه من هذا السياق.
المقام الدبلوماسي وأعراف الحديث السياسي، لا يسمحان للوزير الجزائري بذكر "الأطراف الدولية" التي تقف وراء مخططات تحويل المنطقة المغاربية إلى قاعدة لإعادة رسم التوازنات الدولية، وإعادة توزيع خريطة المصالح والنفوذ والتمركزات السياسية ذات البعد الاقتصادي المهيمن. لكنه كان يشير بوضوح إلى نوعين من الدول؛ أولاً تلك فارعة الطول في العالم، والتي لا تنظر إلى الخرائط إلا على أساس أنها "كعكة" من المصالح وبرميل نفط وموانئ وأسواق للبضائع والأسلحة، وثانياً دول وظيفية برز دورها التخريبي في ليبيا وفي إذكاء الحرب بين الفرقاء، وهذه تتولى التسويق لمشروع التطبيع ومأسسة تمركز الكيان الصهيوني في المنطقة المغاربية.
تبدو فكرة لعمامرة أوسع بكثير من الحالة الليبية فحسب، قياساً بوضع مرتبك سياسياً في تونس أيضاً، بحيث لا تخطئ العين في الجارة الشرقية للجزائر، وجود دور مركزي لدول عربية وغربية شكلت مع مرور الوقت محوراً لتخريب المسارات الديمقراطية الناشئة (على علاتها)؛ سواء بالانقلابات أو الاغتيالات والفوضى. وكذلك قياساً بعلاقات إسرائيلية متنامية مع المغرب، الجارة الغربية للجزائر، وبوضع منفلت في الساحل الأفريقي المحاذي للمنطقة المغاربية، حيث لا تزال اليد الفرنسية تؤدي أدوراً غامضة تؤجج مزيداً من الانقلابات والفوضى ولا سيما في مالي والنيجر.
يبرز حرص الجزائر على استعادة واستكمال تركيز مؤسسات الدولة الليبية، متوازياً مع حرص لافت على استقرار تونس، ومنع كل الضغوط الأجنبية والتدخلات بشؤون هذه الدولة (وزير الخارجية الجزائري زار تونس ثلاث مرات في ظرف أسبوعين). تدرك الجزائر أن كل تأزم داخلي في تونس، هو بالضرورة إنهاك جديد للجزائر، لإلهائها بمحيطها المتوتر عن أي ترتيبات محلية تخرجها هي الأخرى من ظرف سياسي واقتصادي صعب. وبنفس القدر، تحرص الجزائر على استكمال مسار السلام في مالي، لتأمين الخاصرة الجنوبية التي لم تهدأ.
يسوّق محيي الدين عميمور، مستشار الرئيس الراحل هواري بومدين، أن هذا الأخير كان يعتبر أن السياسات الخارجية للجزائر يجب أن تقوم على تقوية دول الجوار لا إضعافها، ذلك فقط ما يعزز الاستقرار ويمنع وقوع هذه الدول في فخ الضغوطات والابتزاز الخارجي الذي يثير القلق والقلاقل في المحيط. يقود ذلك إلى فهم مسوغات الحرص الجزائري على ضرورة وجود "الدولة" وتركيز مؤسساتها في ليبيا ومالي، وفي دول الجوار المغاربي والأفريقي. فكل التجارب التي عرف خلالها الجوار تهشم صورة الدولة أو هشاشتها، كانت نتائجها وخيمة، وشكلت حالة نزيف سياسي وإرهاق أمني تحملت جزءا من أعبائه الجزائر.