تثير المواقف والبيانات الأخيرة الصادرة عن السلطة السياسية والمؤسسة العسكرية في الجزائر، جدلاً بشأن اللهجة الحادة والاتهامات الموجّهة لمكونات شعبية ونقابية وعمالية، وكذلك هوية الأطراف التي تتهمها السلطة بالسعي لإثارة الجبهة العمالية وإحباط تنظيم الانتخابات البرلمانية المبكرة المقررة في 12 يونيو/حزيران المقبل. وإزاء هذا الواقع تنقسم الآراء بين من يعتقد أن السلطة لجأت إلى هذه المواقف المتشددة للهروب من واقع متأزم سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، وبين من يرى أن تلك مؤشرات على استمرار صراع بين أجنحة نافذة في السلطة تتباين خياراتها السياسية ومواقفها من الأزمة والحلول.
وقبل أيام قليلة على بدء الحملة الدعائية للانتخابات البرلمانية المبكرة في 17 مايو/أيار الحالي، اتجهت السلطة الجزائرية للتشدد إزاء الحراك الشعبي وموجة الاحتجاجات العمالية المتصاعدة منذ أسابيع. وأطلقت سلسلة بيانات وتصريحات ومواقف تؤكد ذلك، أحدث هذه المواقف التصريحات التي نقلتها قناة "الشروق" المحلية المقربة من الرئاسة عن مصدر في رئاسة الجمهورية، أكد فيها أن "الرئيس عبد المجيد تبون ينوي التعامل بحزم مع الاحتجاجات والإضرابات غير الشرعية التي لا يمكن قبولها، والتي تسعى لوقف بناء الجزائر الجديدة". وأضاف المصدر أن تبون ومع حرصه على تكريس الحريات العامة، فإنه يرى أن هذه الاحتجاجات والإضرابات "مخططات مبيّتة من أصحاب الامتيازات تستهدف المسار الانتخابي"، في إشارة إلى إضرابات في قطاعات الصحة والبريد والنقل والتعليم، إذ تهدد 14 نقابة عمالية بشل المدارس الإثنين المقبل.
اعتبر جراد أن سلسلة الإضرابات المتزامنة عشية الانتخابات البرلمانية مريبة وتستهدف تعكير المناخ السياسي
وقبل ذلك، كان رئيس الحكومة عبد العزيز جراد قد اعتبر أن سلسلة الإضرابات المتزامنة عشية الانتخابات البرلمانية مريبة "وتستهدف تعكير المناخ السياسي والتشويش على مسعى بناء الجزائر الجديدة". كما حذرت الحكومة كل الأطراف من مغبة التعرّض للانتخابات البرلمانية المبكرة أو التشويش والقيام بأي عمليات تخريب تمس صناديق الاقتراع. ونبّهت الحكومة في بيان عقب اجتماع لها الخميس الماضي، إلى أن القانون الانتخابي ينص على عقوبات تصل إلى عشرين سنة حبساً لكل من قام بإتلاف أو بنزع صندوق الاقتراع، أو الإخلال بالاقتراع أو بتعكير صفو عمليات التصويت.
ولم تتخلّف المؤسسة العسكرية عن دعم موقف الرئاسة، إذ وجّهت في افتتاحية نشرتها مجلة الجيش المتحدثة باسم وزارة الدفاع وهيئة الأركان تحت عنوان "وسقطت الأقنعة"، اتهامات لأطراف بالسعي لتعطيل إجراء الانتخابات البرلمانية وإدخال البلاد في الفوضى، ملمّحة إلى أن المجموعات التي كانت تحظى بامتيازات في العهد السابق، هي التي تقف وراء ذلك. وذكرت الافتتاحية أن هناك "أطرافاً تخريبية مسؤولة عن تحريض عمال وموظفي بعض القطاعات على شنّ إضرابات ظاهرها المطالبة بالحقوق وباطنها إفشال الانتخابات التشريعية وإدخال البلاد في متاهات هي في غنى عنها"، وأن هذه الأطراف كانت "تحضّر لتفجيرات ضد المواطنين، وتنفيذ عدة خطط تخريبية تهدف لتهييج الشارع وتعميم الفوضى، وأساليب وخطط خلق ندرة في السلع ورفع الأسعار والحث على الإضرابات والإساءة والقذف في حق مؤسسات الدولة وقواتها الأمنية".
وعن هذه الأطراف، قالت الافتتاحية إنهم ممن "فقدوا مزايا ومصالح استفادوا منها بطرق ملتوية سابقاً"، في إشارة إلى من تعتبرهم السلطة من المجموعات المالية والسياسية الموالية لنظام الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، والمستفيدين من امتيازات في فترة حكمه، خصوصاً ممن أفلتوا من الملاحقة القضائية لأسباب متعددة، أو انتهت فترة محكوميتهم، سواء كانوا رجال أعمال أو مسؤولين سابقين أو عسكريين سابقين. ويبرز في السياق تساؤل عما إذا كانت السلطة والجيش يشككان في دور محتمل في التحركات الاجتماعية الأخيرة لقائد جهاز المخابرات السابق الفريق محمد مدين الذي استفاد من حكم براءة في قضية التآمر على الجيش بعد سنة من سجنه، أو لرجال أعمال بينهم يسعد ربراب، أحد أكبر رجال الأعمال في الجزائر، والذي تعتقد السلطة أنه يقف وراء أزمة الزيت، لكونه من بين أكبر مموني السوق المحلية بالزيت، لتُطرح أسئلة حول خلفيات إعادة فتح قضية تثبيت حكم قضائي ضده، وما إذا كانت شكلاً من أشكال التهديد بإعادته إلى السجن.
وتدعم أحزاب موالية للسلطة هذه المواقف من التوترات الأخيرة، فرئيس حركة "البناء الوطني" عبد القادر بن قرينة، أكد الأربعاء في مؤتمر صحافي أن هناك محاولات لتعطيل مسار الانتخابات، وشكك في وجود أطراف تقف خلف اختلاق أزمة ندرة المواد التموينية والإضرابات العمالية، واتهم بالوقوف وراءها من وصفهم "ببقايا العصابة" (في إشارة إلى المجموعات التي كانت مرتبطة بنظام بوتفليقة). ودعا في السياق إلى "تنسيق الجهود لمحاصرة بقايا العصابة التي لا تزال تحن للماضي بإفساد وتشويه الفعل الانتخابي ومن أجل إنجاز الاستحقاق الانتخابي وتعزيز الشرعية، ودحر دعوات المراحل الانتقالية ومحاولات كسر المسار الدستوري".
لكن موقف السلطة والجيش، وكذلك الأحزاب الموالية، إزاء التوترات الاجتماعية والسياسية واستمرار الحراك، يُبرز أيضاً حالة إنكار من السلطة للمشاكل الاجتماعية والأزمة المعيشية، واستمرار التضييق على الحريات العامة ومنع التظاهر وكثافة الملاحقات ضد الناشطين والمعارضين. وفي السياق، رأى أستاذ العلوم السياسية في جامعة الجزائر توفيق بوقاعدة، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "مجموع هذه المواقف شوّهت احتجاجات العديد من الفئات العمالية التي ترفع مطالب اجتماعية مشروعة، ففي موقف مجلة الجيش مثلاً وضعت المؤسسة العسكرية نفسها في دفاع غير مفهوم عن القطاعات الوزارية المعنية بالاحتجاج، وهو ما زاد من حنق العمال والموظفين". ولفت إلى أن "الجيش يتحدث عن مؤامرة من دون أن يحددها ويضبطها، ناهيك عن أن مثل هذه المواقف تضع الجيش في قلب السياسة، وخرق مبدأ الحياد وعدم التدخل في الشأن السياسي عندما يسمح الجيش لنفسه بالحديث عن الانتخابات التشريعية".
وفسر بوقاعدة تزامن حديث ثلاث مؤسسات عليا للدولة، الرئاسة والحكومة والجيش، عن "مؤامرة ومخططات"، بأنه جزء من المؤشرات الدالة على وجود صراع بين مجموعات في السلطة أو لها صلة بمنظومة الحكم، مضيفاً "المقصود بها على الأغلب جهات لا يمكن التعامل معها بالأدوات القانونية والزجرية التي يتيحها القانون، سواء لكونها شريكاً في السلطة أو طرفاً أكبر من أن يتم التعامل معه بذات الأدوات، فتريد تشويهه لدى الرأي العام"، متابعاً "ما يمكن استنتاجه هو أننا في مرحلة كسر عظام بين أجنحة النظام، واحد يريد استكمال المؤسسات السياسية بكل التشوهات التي تعتري المسار، وآخر يعمل على إعادة ضبط المسار السياسي بما يحقق مصالحه وتكييفه وفق ما استجد من معطيات الواقع المحلي والدولي في الفترة الأخيرة، وبالتالي يعمل على تأجيل العملية الانتخابية التي دلت معطياتها الأولية على أنها تؤزم أكثر مسألة المشروعية ولا تحقق الشرعية الشكلية التي تحرص السلطة في مجملها على تحقيقها لإسكات الإكراهات الدولية". واعتبر أن "النظام في العادة معتاد على جعل المناسبات الانتخابية فرصة لتسوية نزاعات الأطراف المتنافسة أو المتصارعة، وهذه الانتخابات في تقديري تحمل ذات الأهمية لأجنحة النظام أكثر منها لتحقيق التغيير الذي تتغنى به بعض الشعارات، إذ يعمل كل طرف على استغلال عناصر ومكونات قوته لإلحاق الضرر بطرف ما أو الإطباق على أخرى".
قيادي في "جبهة القوى الاشتراكية": المواقف التصعيدية للسلطة أسلوب اعتادت عليه لإسكات كل الأصوات الرافضة لرداءة سياساتها
لكن القيادي في "جبهة القوى الاشتراكية" جمال بالول، لفت في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أن المواقف التصعيدية للسلطة وتوجّهها نحو الحديث عن مخططات واتهام كل من يختلف معها ولا ينخرط في خريطة طريقها "هي أسلوب اعتادت السلطة على استخدامه في السابق لإسكات كل الأصوات الرافضة لرداءة السياسات التي تنتهجها، للهروب من مواجهة شجاعة ومسؤولة للأزمات متعددة الأبعاد في البلاد، وهي بعيدة عن روح المسؤولية الواجب التحلي بها لمواجهة المشاكل المطروحة برزانة وبرودة والبحث عن الحلول". واعتبر أن ذلك "يضع الشعب ومستقبل البلاد رهينة هذه المغامرات غير محسوبة العواقب، سواء كان المغامرون داخل السلطة أو خارجها، لأن هناك متعنّتين ومغامرين حتى خارج السلطة، ولكن المسؤوليات تختلف، فالسلطة تتحمّل المسؤولية وهي التي يجب أن تعمل على وجود مخرجات للانسداد". ورأى أنه يتوجب أن "تكون هناك مبادرات ومقترحات من الفاعلين السياسيين، تدق ناقوس الخطر وتقدّم الحلول البديلة وتحذر المغامرين سواء داخل السلطة وخارجها مع تحميلهم المسؤولية عن تضييع الفرص في بناء بديل وحلول متوافق عليها"، مقترحاً في هذا السياق طرح مبادرة حوار وطني، قائلاً "يجب أن ندافع عن ضرورة تكريس الديمقراطية التوافقية التي تُجنّبنا الصراعات، وتجاوزها بمشاركة الجميع من دون إقصاء والأخذ بعين الاعتبار المقترحات المختلفة والتي تصب في خدمة بناء وتعزيز الدولة الوطنية الديمقراطية".