ستة عقود في عمر الدول، هي مدة قصيرة نظرياً، وتصبح أكثر قصراً بالمقارنة مع الظروف العصيبة التي رافقت مخاض الاستقلال في الجزائر ولحظة استئناف الاتصال مع التاريخ والأمة والعالم، والعودة إلى الجغرافيا كبلد مستقل، واستعادة المجال الحيوي، وبالمقارنة مع المخلّفات الطاغية التي خلّفها الاستعمار الفرنسي.
لم يكن منجز التحرير وتحقيق الاستقلال في الجزائر مهمة معقّدة فحسب، بل في قلب المستحيل وأقرب إلى المعجزة، وتحقّق بكلفة غالية ودامية، لكنها كلفة تحوّلت إلى رصيد يُؤمّن حاجة البلد من المخزون الثوري والقيم المتجددة التي تحدد الاتجاه والموقف الصحيح في الظروف الصعبة، وتعيد له توازنه في اللحظة القاتمة. وإذا كان من درس عميق يُستوعَب من منجز التحرير، فهو أن قادة الثورة والحركة الوطنية في الجزائر، لم ينتظروا لحظة مثالية لغاية توفر كافة الظروف لإطلاق المبادرة الثورية، بقدر ما وضعوا اللحظة والإمكانية التي توفّرت لهم في صلب القرار الثوري.
لكن منجز البناء كان على قدر من الصعوبة بمكان، ذلك أن القضاء على المخلّفات البغيضة للاستعمار، وتقويض مرتكزاته الأساسية من الجهل والفقر والاستغلال، وتحقيق عوامل الاستقلال الكلي والكامل، في أبعاده السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية، وإخضاع ذلك لمقتضيات بناء دولة حديثة وحداثية، مرتبط بالزمن والرجال والمقدرات، وبمشروع وطني لم يكن في الحالة الجزائرية دائم التوافق مع المتطلبات والتطلعات الشعبية.
وعلى الرغم من ذلك، فإن التقييم الموضوعي لمسيرة دولة الستين عاماً، يفرض لا بد الاعتراف بمنجزات الدولة الوطنية التي تحقّقت؛ بداية من استعادة تدريجية لعوامل الهوية التي عمل الاستعمار على طمسها، ونشر التعليم، والقضاء على أمراض الفقر، وتركيز مؤسسات الدولة، وإنجاز بنى تحتية، وبناء جيش، إلى تحقيق مكانة محترمة ومؤثرة في المنتظم القاري والإقليمي والدولي منذ العقد الثاني للاستقلال، مقارنة ببعض دول الجوار الجنوبي التي سبقت الجزائر إلى الاستقلال، لكنها تحوّلت إلى دول فاشلة.
لا يمنع ذلك، من الإقرار بأنه خلال العقود الستة الماضية من استقلال الجزائر، حدثت أخطاء في السياسات والخيارات، نتيجة عوامل موضوعية ترتبط بالأساس بظروف تشكُّل مؤسسات الدولة الحديثة وقلّة الكوادر الحاملة للكفاءة الضرورية. وحدثت في الوقت نفسه خطايا نتيجة نزعات ذاتية سلطوية ونزوع فردي وصراعات على السلطة والحكم، وتداخل بين مؤسسات الدولة وغياب المشروع والرؤية، وبعضها ناتج أيضاً عن تمركز العسكر في صلب السلطة والتمسك بمراكز صناعة القرار، ما أدى إلى قصور كبير في الاستجابة للتطلعات الديمقراطية للجزائريين.
بعد ستة عقود من الاستقلال، لا أحد من الجزائريين راضٍ عما تحقق في البلد، في علاقة بالاقتصاد والتنمية والمجالات الحياتية، وفي القطاعات المرتبطة بالعمران البشري، مقارنة بالمقدرات العظيمة التي تملكها الجزائر. يدرك الجميع أن فرصاً كثيرة فاتت حكّام الجزائر لوضع البلد في درجة أعلى بكثير على سلم التنمية والتمركز السياسي والاقتصادي في العالم، وهي حقيقة تقر بها السلطة ولا تنكر وقوع أخطاء جسيمة. وهذا مدخل مهم وأساسي يؤشر إلى لحظة إدراك ونضج على مستويين، الشعب الذي بات يرفض القبول بالوضع الراهن في الجزائر، وعبّر عن ذلك بوضوح في الحراك الشعبي، والسلطة التي تشعر أن تفويت فرصة إصلاح الأخطاء وتصحيح المسارات أمر قد ينقل البلد إلى وضع أصعب مما هو عليه. وعيد الاستقلال فرصة مناسبة لمراجعة الدروس في بلد رُسمت حدوده بالدم ويحرسه الشهداء.