كل الجدل الذي استوطن الجزائر خلال الأسبوع الماضي تركز حول شعارات رُفعت في الحراك الشعبي، تخص الجيش وجهاز المخابرات. الشعارات التي تخص الجهاز الأخير كانت الأحدث في الشارع ولها مبرراتها الظرفية (قضية التعذيب) والأكثر إثارة للجدل. وعلى الرغم من أن بعض الشعارات من قبيل "المخابرات منظمة إرهابية" جاءت صادمة وركيكة سياسياً في صياغتها، لكنها في الوقت نفسه بمثابة انعكاس لأحاديث وقناعات كامنة لدى الجزائريين عن مسؤولية الجهاز الأمني في محن الجزائر الكثيرة والمتعددة، السياسية والاقتصادية.
من المكاسب المهمة التي تحققت في منعطفات الحراك الشعبي، طرح النقاش حول "جهاز المخابرات" وأدواره، ونقل هذا النقاش إلى عمق الشارع والفضاء العام. يمكن وصف هذا النقاش والذي بدأ منذ سنوات بالجريء، بالنظر إلى الهالة والقداسة السياسية التي حظي بها هذا الجهاز وقياداته في التاريخ السياسي للجزائر، وبسبب عامل التضخم الوظيفي الذي أحاط بالمخابرات ضمن سيرورة مؤسسات الدولة وعلاقاتها الوظيفية والبينية، وكان الجهاز يفرض حالة من الهيمنة أفقياً وعمودياً.
في الحقيقة لم يكن المقصود بهذه الشعارات المخابرات كمؤسسة أمنية لا نقاش في أهميتها وضرورات وجودها ضمن مؤسسات الدولة، ولكن الذي كان مقصوداً بها، وسيظل طالما ظلت على حالها، هو وظيفتها في المسارات السياسية للبلاد، كمؤسسة "بوليس سياسي". وتصبح المخابرات جهاز "بوليس سياسي" عندما يتركز دورها في التلاعب بالأحزاب السياسية وشق صفوفها، وتزوير الانتخابات وتوزيع حصص المقاعد في البرلمان وغيرها من المجالس، والتدخل في مؤتمرات الأحزاب، وفي تأسيسها أيضاً كما الجمعيات والنقابات، والتلاعب بسير الموظفين والشخصيات صعوداً ونزولاً، وفي تعيين الوزراء وإقالتهم وتدبير سير القضاء والملفات، وقطع أرزاق المعارضين أو تعطيل مصالحهم.
في الجزائر ليس خافياً على أحد تحكّم جهاز "البوليس السياسي" في قرار إنشاء الصحف، ومراقبة الخط التحريري لوسائل الإعلام، وفي تسيير المطابع وتوزيع الإشهار والإعلانات، فضلاً عن التدخّلات في القرارات الإدارية لصالح شخص أو جهة وحرمان آخر، والتمركز في كل نقطة ومؤسسة، حتى إن الأمين العام السابق لحزب "جبهة التحرير الوطني" عمار سعداني تساءل في مؤتمر سياسي عام 2015 "ماذا يفعل عقيد في المخابرات في مجلس الأمة؟" (يقصد مكتب الجهاز). وحدث أيضاً في بداية التسعينيات أن تم تعيين عبدو بزيان مديراً للتلفزيون الرسمي، فكان من أول قراراته إغلاق مكتب المخابرات في التلفزيون.
بهذا المعنى كانت المخابرات دولة داخل دولة في الجزائر، ومذكرات كبار السياسيين والعسكريين وكتابات الموظفين الحكوميين تؤكد هذه الحقيقة وتشهد على ذلك. لا شك في أن الجزائريين يريدون جهاز مخابرات بالمعنى والوظيفة الأمنية، وبكل مقتضيات الشفافية في عملها وخضوعها للقانون، لكنهم لا يريدون استمرار تأديتها أو غيرها لدور "بوليس سياسي" ويتلاعب بالمصائر السياسية، الجماعية والفردية. ومثلما يتوجب أن يستكمل تحوّل الجيش إلى وظيفته الدستورية واستبعاده من التدخل في الشأن السياسي، يتوجب أيضاً إصلاح الأجهزة الأمنية وتحريرها من الولاءات وإملاءات المراحل الأيديولوجية وحمايتها من الانحراف المكلف، والدفع بجهاز المخابرات إلى وظيفته الأمنية تحت سلطة القانون، والتوقف عن لعب دور "البوليس السياسي". ذلك مطلب مركزي ملزم وضرورة لنجاح أي تحوّل ديمقراطي.