ما لا تغفره الجزائر والجزائريون للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ولغيره أيضاً، حديثه عن تاريخ البلاد واعتبار أن الأمة الجزائرية لم تكن شيئاً قبل الاستعمار. هذا يعني أن ماكرون تخلى في لحظة انزلاق عن اللياقة السياسية، ويتحدث بالطبع من داخل المدرسة الكولونيالية التي تعتبر أن الاستعمار كان فعلاً نقلاً للحضارة وتمديناً للشعوب.
يجرح ذلك الشعور العام في الجزائر بشكل مؤلم وقاسٍ، ناهيك عن أنه مجانب للحقيقة التاريخية. في فيتنام الجنرال جياب، الذي هزم الفرنسيين في معركة ديان بيان فو الشهيرة عام 1954، ترك مقولة مشهورة: "الاستعمار تلميذ غبي". ماكرون يثبت ذلك فعلاً. كان يمكن له أن يقارن فقط كم استغرق احتلال الجزائر من سنوات بسبب المقاومة الباسلة للأمة الجزائرية، من الأمير عبد القادر غرباً إلى أحمد باي شرقاً، ومن لالة فاطمة نسومر في منطقة القبائل إلى الشيخ أحمد بوزيان جنوباً، في مقابل كيف استغرق جنود هتلر 53 يوماً فحسب للوصول إلى عمق باريس، ليعرف أين توجد الأمة المدافعة عن الأرض، في الجزائر أم في فرنسا.
ليس صحيحاً أن النظام السياسي في الجزائر هو من أذكى الكراهية لفرنسا لدى الأجيال الجديدة. يكفي أن يقرأ أي منهم عن مجزرة الثامن من مايو/ أيار 1945، أو إبادة سكان واحة الزعاطشة عام 1849، وكثير من التاريخ الاستعماري المليء بالدم، لتأخذ فرنسا موقعها في الخيال الجزائري كدولة مجرمة. يحفظ الجزائريون عن قادة وطنيين أقوالاً مأثورة بليغة المعنى في هذا السياق. قبل الاستقلال وقبل الثورة حتى، أحد قادة المقاومة الشعبية الشيخ بوعمامة قال "إذا سمعتم رنين الرصاص في قبري فاعلموا أني ما زلت أحارب فرنسا". والشيخ عبد الحميد ابن باديس، رائد النهضة، قال: "لو قالت لي فرنسا قل لا إله إلا الله ما قلتها".
من ضمن تعريفات السياسة أنها فن الممكن لإدارة المصالح، لكن هذا التعريف لا ينطبق على الحالة الجزائرية الفرنسية بسبب جبال من جماجم الشهداء ووديان من الدم تباعد بين الطرفين. من الصعب وضع التاريخ في مقابل المصالح والاقتصاد كما يريد ماكرون والمؤسسة الرسمية في فرنسا، حتى وإن كانت الكلفة الواقعية لذلك باهظة أحياناً. ثمة طريق واحد لتسوية ملف الذاكرة بكل ما يحمل من آلام، الاعتراف والاعتذار والتعويض. قد يطول الزمن أو يقصر، لكن الجزائريين لن ينسوا أبداً عذابات آبائهم خلال الزمن الاستعماري المظلم. لفترة كانت المؤسسة الرسمية في فرنسا تراهن على تبدل الأجيال، ورحيل جيل الثورة، لتغيير العقيدة التاريخية للشباب الجزائري. لكن الحراك الشعبي عام 2019، فاجأ باريس في جمعته الأولى بحمل الشباب لشعارات مكثفة مناوئة لفرنسا.
يدرك الجزائريون أن فرنسا تقع في قلب عذاباتهم السياسية والاقتصادية، ليس بسبب مخلفات الاستعمار فحسب، ولكن أيضاً بسبب دس لوبيات إدارية وسياسية، ومجموعات مالية واقتصادية ونخب عسكرية وناعمة موالية لها، ساعدت على استمرار كيانها الثقافي وهيمنة اللغة الفرنسية، وإبقاء قدرتها على الوصول إلى المقدرات الجزائرية في مقابل تعطيل كل مشروع وطني. هذا بالتأكيد لا يعفي النظام الجزائري أيضاً من المسؤولية عن ذلك، بغض النظر عن الظروف التي شابت التاريخ السياسي للجزائر المستقلة.