اتخذت القوات التركية إجراءات لإخراج "هيئة تحرير الشام" (جبهة النصرة سابقاً) من منطقة عفرين، شمال غربي سورية، ومنع دخولها إلى المنطقة مرة أخرى، في خطوة فسّرها مراقبون بأنه لا يمكن فصلها عن الضغوط الشعبية الرافضة لتمدد "الهيئة" في المنطقة. وعبّر عن ذلك أمس الجمعة، خروج تظاهرات عدة جديدة في الشمال السوري رافضة لهذا التمدد، فضلاً عن بروز مواقف دولية، أميركية وروسية تحديداً، منتقدة للتطورات.
الجيش التركي يتدخل في منطقة عفرين
وذكرت مصادر عسكرية من الجيش الوطني السوري المعارض، لـ"العربي الجديد"، أن الجيش التركي استقدم حواجز اسمنتية إلى معبري الغزاوية ودير بلوط في ريف عفرين الجنوبي، اللذين يربطان منطقة شمال حلب مع إدلب، وذلك لضبط المنطقة، ومنع حدوث تجاوزات أمنية وعسكرية خلال الفترة المقبلة، ومنع دخول "هيئة تحرير الشام" مرة أخرى إلى المنطقة.
كما بدأ الجيش التركي بتسيير دوريات على حواجز الشرطة المدنية والعسكرية في عفرين للتأكد من خلّوها من عناصر الهيئة الذين يحاولون التخفي بلباس ورايات الشرطة العسكرية التابعة للجيش الوطني.
عناصر الهيئة يحاولون التخفي بلباس ورايات الشرطة العسكرية التابعة للجيش الوطني في عفرين
ولفتت المصادر إلى أن النقطتين التركيتين هدفهما تفتيش وتدقيق أسماء المارّة لمنع دخول عناصر "تحرير الشام" بلباس فصائل أخرى إلى عفرين. وأشارت إلى أن الجيش التركي سيّر ليل الخميس - الجمعة دوريات في مدينة عفرين ومنطقة "غصن الزيتون" في ريف حلب الشمالي على الحواجز التابعة لـ"الشرطة العسكرية" وباقي حواجز فصائل "الجيش الوطني"، للتأكد من هوية العناصر الموجودين عليها. ولفتت إلى أن الجيش التركي طرد عدداً من عناصر "تحرير الشام" كانوا يرتدون لباس الشرطة العسكرية على حاجز بلدة جنديرس القريبة من مدينة عفرين شمالي حلب.
ووصف هشام اسكيف، عضو مكتب العلاقات العامة في "الفيلق الثالث" التابع للجيش الوطني السوري المعارض، لـ"العربي الجديد"، المشهد في عفرين بأنه "مائل للاستقرار"، لكنه أضاف أن "هيئة تحرير الشام لا تزال تراوغ وتحاول التخفي بلباس الشرطة العسكرية، أو فصيلي "الحمزات" و"العمشات" التابعين للجيش الوطني". وأوضح اسكيف أنه لا يزال لدى "الهيئة" بعض القوات في عفرين، وإن كانت نسبتهم خفّت كثيراً مقارنة بالفترة السابقة، بحسب تقديره.
وكان الجيش التركي أمهل "هيئة تحرير الشام" حتى فجر الخميس الماضي لمغادرة المنطقة. وعقب ذلك، بثّت "الهيئة" عبر إعلامها تسجيلات مصورة تظهر انسحاب أرتال عسكرية كبيرة، غير أن معطيات على الأرض تشير الى أن مجموعات لـ"الهيئة" لا تزال مختبئة داخل مقار ومعسكرات فرقتي "الحمزة" و"السلطان سليمان شاه" وحركة "أحرار الشام".
ولا تزال "الهيئة" تحتفظ ببعض القوات داخل مقار حركة "أحرار الشام" في منطقة جنديرس في مقر قيادة الحركة، وفي تل سللور، وفي مقار أمنية للحركة في بلدة كوران مع رفعهم لرايات الحركة وتحركهم باسمها.
وشوهدت أمس الجمعة، أرتال من سيارات "الهيئة" تغادر منطقة عفرين بالتزامن مع انسحاب الجيش التركي من منطقتي قطمة وكفر جنة، ودخول حركة "ثائرون" إلى هذه المناطق التي كانت سابقاً تحت سيطرة "الفيلق الثالث" بشكل أساسي. وأظهرت جولة ميدانية لـ"العربي الجديد" أن تركيا تتجه لإقامة قواعد عسكرية على مداخل عفرين وليس الانتشار على الحواجز داخلها، لكن لوحظ أن دوريات تركية جالت على الحواجز للتأكد من عدم وجود عناصر يتبعون لـ"هيئة تحرير الشام" عليها.
تركيا تتجه لإقامة قواعد عسكرية على مداخل عفرين وليس الانتشار على الحواجز داخلها
وكانت "تحرير الشام" سيطرت على منطقة عفرين وبلدة كفرجنة بعد اشتباكات مع "الفيلق الثالث" التابع لـ"الجيش الوطني السوري"، وذلك عقب اعتقال الفيلق لخلية اغتيال الناشط محمد عبد اللطيف أبو غنوم، والتي اتضح أنها تتبع لفرقة "الحمزة" التي بادرت مع فصيل "السلطان سليمان شاه" (العمشات) للتحالف مع "تحرير الشام" وتسهيل دخولها إلى منطقة عفرين.
وفي هذا السياق، استأنفت "الشرطة العسكرية" بمشاركة "الفيلق الثالث" أمس الجمعة، التحقيقات بقضية اغتيال الناشط أبو غنوم وزوجته، بعد تعافي أحد عناصر الخلية المتورطة باغتياله، نتيجة إصابته في 10 أكتوبر/تشرين الأول الحالي، أثناء ملاحقته مع باقي أفراد الخلية المكونة من 5 أشخاص في مدينة الباب الواقعة ضمن منطقة "درع الفرات" شرقي محافظة حلب.
امتعاض روسي وأميركي
ويأتي التحرك التركي للحد من تمدد "هيئة تحرير الشام" في الشمال السوري بالتزامن مع امتعاض روسي وأميركي من الموقف التركي إزاء تحركات "الهيئة" في الفترة الأخيرة.
وفي السياق، قال المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى سورية، ألكسندر لافرنتييف، إن تركيا تسعى الى تحويل "هيئة تحرير الشام"، صاحبة النفوذ العسكري في إدلب، إلى "معارضة معتدلة". واعتبر لافرنتييف أن الموقف التركي يحظى بدعم عدد من الدول الغربية للمضي في هذه المحاولات، "على الرغم من وجود قرار للأمم المتحدة يصنف "تحرير الشام" على أنها تنظيم إرهابي، وفق تصريحه لجريدة "الوطن" المقربة من النظام السوري، أول من أمس الخميس.
ورأى المبعوث الروسي أن هذه السياسة التي يتم تطبيقها حالياً في الشمال السوري، هدفها إبعاد إمكانية فرض سيطرة النظام السوري على تلك المناطق، وفق تعبيره.
وقال لافرنتييف إن روسيا دعت المعارضة السورية إلى حلّ مشكلة وجود "هيئة تحرير الشام، لكن المعارضة المدعومة من تركيا لا ترفض فقط قتال "تحرير الشام"، بل تسعى إلى إقامة شراكة معها، وهي نقطة تتحدث بها روسيا وبانفتاح مع الشركاء الأتراك".
وسبقت هذه التصريحات، رسالة روسية نارية إلى تركيا، تمثلت بغارات روسية مفاجئة على مواقع تابعة لـ"الجيش الوطني" في محيط مدينتي إعزاز وعفرين شمال حلب، وذلك بعد يوم على اقتحام "تحرير الشام" مدينة عفرين.
من جهته، كشف معهد "واشنطن لسياسة الشرق الأدنى"، عن تعرض الحكومة التركية للضغوط من الولايات المتحدة من أجل التدخل وإيقاف تمدد "هيئة تحرير الشام" في شمال وغرب سورية.
وقال المعهد إن واشنطن هدّدت أنقرة بالسماح لـ"قوات سورية الديمقراطية" (قسد) بالدخول إلى منطقة عفرين في ريف محافظة حلب في حال عدم مغادرة "الهيئة" لها، وهذا ما "أثار غضب الأتراك"، بحسب المعهد.
ضغوط شعبية
وفي إطار الضغوط لوقف تمدد "الهيئة"، شهدت مناطق عدة في الشمال السوري، وخصوصاً ريف حلب، أمس الجمعة، تظاهرات شعبية للتأكيد على رفض المجتمع المحلي سيطرة "هيئة تحرير الشام" على أي من مناطق الجيش الوطني.
واعتبر الباحث السياسي وائل علوان، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن التظاهرات التي خرجت الأسبوع الماضي كانت السبب الأساسي في التأثير على الموقف التركي للوقوف في وجه تمدد "تحرير الشام"، موضحاً أن معظم الناشطين في ريف حلب مناهضون للهيئة ويخشون من تعرضهم للاعتقال، إضافة إلى ارتباط تدخل الهيئة العسكري الأخير بالدفاع عن قتلة الناشط أبو غنوم.
وائل علوان: التظاهرات الشعبية هي السبب الأساسي في التأثير على الموقف التركي
وأضاف علوان، الباحث في مركز "جسور"، أن الجيش التركي طلب من "تحرير الشام" إخلاء المناطق التي تقدمت إليها شمال حلب، لكن لا يمكن القول إن "الهيئة" انسحبت تماماً من تلك المناطق حتى الآن، ولا يزال لها بعض الوجود المخفي ضمن الفصائل الموالية لها في منطقة عفرين.
وحول الرابحين والخاسرين في التطورات الأخيرة، رأى علوان أن "الفيلق الثالث" كان أكبر الخاسرين، وقد يطالب الفيلق بالعودة إلى مقراته التي خرج منها في منطقة عفرين. كما ستطلب حركة "البناء والتحرير" التابعة لـ"الفيلق الأول" بالعودة إلى مقراتها وحواجزها في منطقة جنديرس، وربما يتحقق هذا بشكل نسبي على ضوء التفاهم بين فصائل الجيش الوطني، وخصوصاً بين "الفيلق الثالث" وحركة "التحرير والبناء" وهيئة "ثائرون".
الجيش التركي يعترض جهود الاستخبارات
من جهته، رأى مصدر مطلع في "الجيش الوطني" في حديث مع "العربي الجديد" مفضّلاً عدم الكشف عن اسمه، أن الجيش التركي قرّر أخيراً التحرك لإخراج "تحرير الشام" من عفرين بعد فترة من "التراخي" ربما أرادت تركيا من خلالها اختبار إمكانية توسيع منطقة نفوذ "الهيئة"، لكن ذلك قوبل برفض دولي، وشعبي محلي.
وأضاف المصدر: "ربما كانت تركيا تفكر في الاعتماد على "تحرير الشام" لضبط الوضع الأمني في عفرين، أو حتى في مناطق سيطرة "الجيش الوطني" الأخرى بريف حلب في ضوء الفوضى الأمنية التي تعيشها تلك المناطق تحت سيطرة فصائل الجيش الوطني، لكن هذا المسعى الذي كانت تقف خلفه الاستخبارات التركية، وليس الجيش، تمّت فرملته الآن كما يبدو، نتيجة تلك الضغوط الخارجية والمحلية.