كان الجندي الأميركي لانس وليام بي يشعر بأنه محظوظ جدًّا، حين سافر عشية عيد الميلاد عام 2001 إلى جنوب أفغانستان، ولم يكن حينها يتجاوز الـ19 عامًا.
وفي ذلك الوقت، كانت الولايات المتحدة قد بدأت بدكّ تنظيم "القاعدة" الذي كان قد هاجم مركز التجارة العالمية في نيويورك وأسقطهما في هجوم بالطائرات المدنية. وكان وليام بي من أوائل قوات المارينز التي اجتاحت البلاد.
وفي ذلك الحين، كانت تدور أفكار الشاب اليافع وليام بي حول "الإثارة" بأن "يكون أول الرفاق الذين سيبدأون" هذه الحرب. وبعد عقد من الزمن، أزالت 3 تعزيزات أميركية في أطول حرب أميركية ذلك الشعور الذي رافق بي.
بالنسبة لوليام بي، تبدّلت مواقفه في ليلة من ليالي عام 2008، في محافظة هلمند الأفغانية؛ في ذلك الوقت، أمسك وليام بي، الذي كان قد أصبح ضابطًا، بيد قناص أميركي كان قد أصيب للتو في رأسه، بينما قام مسعف بقطع حنجرة القناص ليسمح بدخول الهواء إلى رئتيه.
"بعد ذلك، كان الأمر أشبه بـ سحقًا لأولئك الناس"، يقول بي عن السبب الذي دفعه إلى مغادرة أفغانستان، مضيفًا "كل ما أردته أن أعيد رفاقي، هذا كل ما يهمني. أردت أن أعيدهم إلى البلاد".
ومع إعلان الرئيس الأميركي جو بايدن عن إنهاء مهمة القوات الأميركية في أفغانستان هذا الشهر، يتساءل الأميركيون والأفغان عما إذا كانت هذه الحرب تستحق التضحية بأكثر من 3 آلاف قتيل من القوات الأميركية وحلف شمال الأطلسي، وعشرات الآلاف من الأفغان، ومليارات الدولارات ستتحمل عبأها الأجيال الأميركية؛ فيما تبدو أفغانستان اليوم، وبعد أسبوع من القتال الشرس، قاب قوسين أو أدنى من السقوط بيد حركة "طالبان" مجدّدًا، تمامًا كما وجدها الأميركيون منذ قرابة 20 عامًا.
إجمالاً، قُتل 2448 جنديًا أميركيًا، و1144 من أفراد الخدمة من الناتو والدول الحليفة الأخرى، وأكثر من 47000 مدني أفغاني، وما لا يقل عن 66000 جندي وشرطي أفغاني
وبالنسبة لبايدن ولوليام بي ولبعض المسؤولين الأميركيين في حرب الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي في أفغانستان، فإن الإجابة عن سؤال عما إذا كانت الحرب تستحق كل تلك التضحية، غالبًا ما تنحصر (الإجابة) في التحليل.
وفي السنوات الأولى من الحرب، قام الأميركيون بتفكيك تنظيم "القاعدة الذي يتزعمه أسامة بن لادن في أفغانستان، وهزموا حكومة "طالبان" التي استضافت القاعدة، لقد حققوا نجاحاً حينها.
ويقول دوغلاس لوت، قيصر البيت الأبيض للحرب خلال إدارتي جورج دبليو بوش وباراك أوباما، والجنرال المتقاعد: إن الدليل على تحقيق نجاح يتمثل في أن القاعدة لم تعد قادرة على شن هجوم كبير على الغرب منذ عام 2005.
ويقول لوت: "لقد قضينا على القاعدة في تلك المنطقة، في أفغانستان وباكستان".
ويصر لوت وآخرون على أن ما حققه النصف الثاني من الحرب تمثل في توفير الوقت - فترة ملائمة للحكومة الأفغانية وقوات الأمن والمجتمع المدني لمحاولة إنشاء قوة كافية للاعتماد على أنفسهم.
لقد تحسنت جودة الحياة من بعض النواحي إذاً، ثم حدثت تطورات في طبيعة الحياة في ظل الاحتلال الغربي، وعلى الرغم من ذهاب ملايين الدولارات التي ضختها الولايات المتحدة في أفغانستان إلى دهاليز الفساد، فإن معدلات وفيات الرضع انخفضت بمقدار النصف. وفي عام 2005، حصل أقل من 1 من كل 4 أفغان على الكهرباء، وبحلول عام 2019، حصل الجميع على الكهرباء تقريباً.
ومنح النصف الثاني من الحرب للنساء الأفغانيات، على وجه الخصوص، فرصاً حُرِمَن منها تمامًا في ظل حكم "طالبان"، بحيث تمكنت أكثر من فتاة واحدة من كل ثلاث مراهقات - قضين حياتهن كلها تحت حماية القوات الغربية – من القراءة والكتابة.
لكنها المرحلة الثانية من الحرب، وهي الأطول، تبدو على وشك الفشل الكامل الآن، إذ لم تتمكن الحرب الأميركية من القضاء على حركة "طالبان"، وفشلت في ضمان التوصل إلى تسوية سياسية. واجتاحت قوات "طالبان" الأسبوع الماضي ثلثي البلاد واستولت على عواصم عدد من الأقاليم، قبل أن تكمل القوات القتالية الأميركية انسحابها. وعلى جبهات عديدة، هزمت "طالبان" قوات الأمن الأفغانية التي أمضت القوات الأميركية وقوات "الناتو" عقدين من الزمن تعمل على بنائها.
ويواجه هذا التقدم السريع صموداً أخيرًا في كابول، حيث يعيش معظم الأفغان، والذين سيتعرضون لقيود على البلاد في ظل تبني "طالبان" نهجاً دينياً متشدداً، الأمر الذي قد يؤدي إلى تبدد الكثير من المكاسب التي تحققت في الأعوام الماضية.
وقال بايدن الشهر الماضي مجيبًا عن سؤال من أحد المراسلين "لم يتم إنجاز المهمة"، لكنه ما لبث أن تدارك الأمر وصحح لنفسه، مستحضرًا انتصارات السنوات القليلة الأولى من الحرب. وأضاف: "المهمة أنجزت لأننا... استأصلنا أسامة بن لادن، والإرهاب لم يعد ينبع من ذلك الجزء من العالم".
ويقول مساعد وزير الخارجية لآسيا الوسطى ريتشارد باوتشر إنه خلال أغلب العقد الأول من الحرب، لم يكن الانتقاد يصوب إلى حد كبير للحرب ذاتها، بل للفترة الطويلة التي استغرقها الحرب. وقال باوتشر "تم توسيع أهداف الحرب لمحاولة تشكيل حكومة قادرة على وقف أي هجمات مستقبلية". لكن أميركا خسرت كثيراً من الأرواح والأموال خلال السنوات الطويلة للحرب غير الحاسمة.
إن خوض حربين بعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول في وقت واحد، من خلال جيش من المتطوعين، يعني أن أكثر من نصف 2.8 مليون جندي وامرأة أميركيين تم نشرهم في أفغانستان أو العراق خدموا مرتين أو أكثر، وفقًا لمشروع "تكاليف الحرب" في جامعة براون.
وساهمت عمليات الانتشار المتكررة للجنود في معدلات الإعاقة لدى المحاربين القدامى، إذ زادت معدلات الإعاقة على ضعف معدلات إعاقة المحاربين القدامى في فيتنام، كما تقول ليندا بيلمز، من كبار المحاضرين في السياسة العامة في جامعة هارفارد.
وترى بيلمز أن الولايات المتحدة ستنفق أكثر من تريليوني دولار فقط لرعاية ودعم قدامى المحاربين في أفغانستان والعراق مع تقدمهم في السن، مع بلوغ التكاليف ذروتها من 30 إلى 40 عامًا من الآن، إضافة إلى تكبد تريليون دولار واحد في تكاليف البنتاغون ووزارة الخارجية في أفغانستان منذ عام 2001، إذ إن الولايات المتحدة اقترضت بدلاً من رفع الضرائب لدفع تكاليف حربي أفغانستان والعراق، ويُعتقد أن تسديد الفوائد ستكلف الأجيال القادمة من الأميركيين تريليونات الدولارات، إضافة إلى الكثير من التكاليف الأخرى.
وبلغت وفيات الحرب السنوية ذروتها في وقت قريب من منتصف الحرب، إذ حاول الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما زيادة القوات للمرة الأخيرة لهزيمة "طالبان". وإجمالاً، قُتل 2448 جنديًا أميركيًا، و1144 من أفراد الخدمة من الناتو والدول الحليفة الأخرى، وأكثر من 47000 مدني أفغاني، وما لا يقل عن 66000 جندي وشرطي أفغاني، وفقًا للبنتاغون ومشروع "تكاليف الحرب".
وتم توسيع مهبط الطائرات في قندهار، في نفس المكان الذي أقام فيه وليام بي عيد الميلاد عام 2001، إلى موقع يكفي لعشرات الآلاف من قوات الناتو، والتي تضمن مطاعم بوبايز وبرغر كينجز وحلبة للتزلج على الجليد.
وعلى مر السنين، انتقلت القوات المقاتلة، مثل وحدة الاستطلاع البحرية 24 التابعة لوليام بي، إلى مناطق ساخنة لمحاربة "طالبان"، وبناء علاقات مع القادة المحليين، وغالبًا ما تتم معرفة الخسائر عندما تناوب وحدتهم مرة أخرى.
وفي مقاطعة هلمند، التي كانت نقطة تحول بالنسبة لوليام بي في عام 2008، لقي المئات من القوات الأميركية وغيرها من قوات "الناتو" مصرعهم وهم يقاتلون بهذه الطريقة. واستعاد مقاتلو “طالبان” السيطرة على هذه المحافظة يوم الجمعة.
وانتهت مهمات وليام بي في أفغانستان أخيرًا في عام 2010، عندما انفجرت عبوة ناسفة على بعد 4 أقدام منه، ما أسفر عن مقتل اثنين من زملائه في الخدمة كانا يقفان معه. وتعرض وليام بي لإصابة في الرأس، وتركته لبعض الوقت غير قادر على المشي.
فهل كانت الحرب تستحق كل تلك التضحية؟ أجاب بي، الذي يعمل الآن في شركة توفر روبوتات مستقلة للتدريب البحري في كامب ليجون بولاية نورث كارولينا، والذي يؤلف كتاباً عن الفترة التي قضاها في أفغانستان، "الأشخاص الذين تأثرت حياتهم، أعتقد شخصيًا أننا حققنا لهم أشياء أفضل".
وأضاف "لكنني أيضا لن أقايض حفنة من القرى الأفغانية مقابل واحد من مشاة البحرية. ولو طرحتم نفس السؤال في أفغانستان، مع ذلك، فإنكم ستحصلون على إجابات مختلفة".
وأجاب بعض الأفغان الذين وُجه لهم هذا السؤال قبل اجتياح "طالبان" الدراماتيكي الأسبوع الماضي بأن الوقت قد حان أكثر للأميركيين للسماح للأفغان بتولي شؤونهم الخاصة، لكن شغوفة، وهي امرأة تبلغ من العمر 21 عامًا، تقول إن عقدين من وجود القوات الأميركية على الأرض عنى لها الكثير من الأشياء.
واكتفت وكالة أسوشييتد برس بنشر الاسم الأول لشغوفة فقط، نظرًا للمخاوف من انتقام "طالبان" من النساء اللائي ينتهكن قوانينها الصارمة.
وعندما كانت لا تزال شغوفة في طفولتها، تعهدت بالزواج من ابن عم أكبر منها بكثير في الريف لسداد قرض. ونشأت شغوفة في أسرة ومجتمع لا تستطيع فيه سوى عدد قليل من النساء القراءة والكتابة.
ولكن عندما كبرت، صادفت شغوفة منظمة غربية غير ربحية لتسلق الجبال، جاءت إلى كابول لتعزيز اللياقة والقيادة للفتيات الأفغانيات. وكانت واحدة من المنظمات التنموية التي قدمت إلى أفغانستان خلال الحرب التي قادتها الولايات المتحدة.
وطورت شغوفة نفسها، وتسلقت فوق الجليد على جبل في أفغانستان، وهو عمل يصعب القيام به في ظل حكم "طالبان". وتغيرت مساعي عائلتها لتزويجها لابن عمها، وحصلت على وظيفة وتسعى للحصول على درجة البكالوريوس في إدارة الأعمال.
وبالنسبة لشغوفة اليوم، فإن الامتنان والتباهي بكل ما اكتسبته يختلط مع مخاوفها مما قد تفقده.
وتمثلت رسالة شغوفة للأميركيين حين غادروا كابول واقتربت "طالبان" من المنطقة بالقول، بلغة إنجليزية شبه مكتملة: "شكرًا لكم على كل ما حققتموه في أفغانستان".
(أسوشييتد برس)