الأزمة والهلع اللذان أصابا المجتمع الإسرائيلي، إثر الإخفاق الكبير في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أعادا الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، من وجهة نظر إسرائيلية، إلى نقطة البداية. وبدأ المجتمع الإسرائيلي والقيادات تتعامل مع الصراع كلعبة صفرية يجب أن يربح المجتمع الإسرائيلي فيها، وغير ذلك يعني بداية نهاية المشروع الصهيوني.
كل هذا بات يوفر شرعية لدعم خطاب تهجير الفلسطينيين من غزة، وإلغاء أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية، والانتقام من كل سكان غزة، مع إخراج مشاعر العداء والكراهية تجاه كل من هو فلسطيني، من ضمنهم مواطنو إسرائيل. دفعت عملية "طوفان الأقصى" والحرب على غزة المجتمع والقيادات الإسرائيلية، إلى تبني واستعمال مصطلحات ومواقف كانت في العقود الأخيرة حكراً على اليمين واليمين المتطرف. تلك المصطلحات تحوّلت حالياً إلى مزاج عام لدى المجتمع الإسرائيلي، والنخب الأكاديمية والثقافية والقيادات السياسية.
تبني النخب لخطاب اليمين
في الوقت الراهن، لا يمكن أن نسمع في المنظومة الحزبية الإسرائيلية أي صوت معارض للحرب وللخطوات الانتقامية التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي في الحرب على غزة. الأحزاب التي كانت تُعتبر لغاية 7 أكتوبر كأحزاب "يسار صهيوني" أو أحزاب وسط ووسط اليمين، باتت تتبنّى خطاباً صقورياً عسكرياً، وخطاب اليمين وأحياناً خطاب اليمين المتطرف. فعلى سبيل المثال نشر عضو الكنيست رام بن باراك من حزب "يوجد مستقبل" المعارض برئاسة يئير لبيد، مقالاً مشتركاً مع عضو الكنيست داني دانون من "الليكود"، في صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية، دعوا فيه إلى ترحيل سكان غزة وتوزيعهم على 100 دولة داعمة للموقف الفلسطيني.
كما برز عضو الكنيست السابق والجنرال يئير غولان من حزب "ميرتس" اليساري، وهو النائب السابق لرئيس الأركان، حين لبس الزي العسكري وذهب للقتال تطوعاً في بلدات الجنوب مباشرة بعد هجوم "حماس"، وبدأ يدلو بتصريحات صقورية. كما تباهى وزير الزراعة ورئيس جهاز الأمن العام (الشاباك) السابق، آفي ديختر (الليكود) بأن إسرائيل تقوم حالياً بنكبة جديدة في غزة. ناهيك باختفاء حزبي "ميرتس" و"العمل" كلياً من المشهد السياسي بعد اندلاع الحرب.
تباهى آفي ديختر بأن إسرائيل تقوم حالياً بنكبة جديدة في غزة
هذه المواقف تلقى دعماً وتعزيزاً أو شرعية من قبل نخب أكاديمية وثقافية، كانت محسوبة في السابق على تيارات سياسية ليبرالية غير يمينية أو على اليسار الصهيوني. فمنذ السابع من أكتوبر اتخذ اليسار الصهيوني، كعادته، موقفاً واضحاً مع إجماع القبيلة اليهودية، وتجنّد للمعركة. كما تجنّد في هذه الحالة في جهد شرعنة هذا التحوّل، ووضعه في إطار صراع الخير مع الشر.
برز ذلك في عدد كبير من مقالات الرأي التي نُشرت في الصحافة والإعلام الإسرائيليين، التي كانت أشبه بجلد الذات من قبل كتّاب محسوبين على "اليسار الصهيوني" التقليدي، الذين بدأوا بحملة مراجعات لمواقفهم السابقة، والادعاء أن اليسار العالمي تخلّى عنهم يوم السابع من أكتوبر، وباتوا أقرب إلى تبنّي مقولات اليمين حيال الصراع، بحيث يرفض هؤلاء أي حديث حول سياق ما حدث، والادعاء أن هدف "حماس" كان قتل كل من هو يهودي. ولا يقبل اليسار الصهيوني أي حديث عن معاناة أهل غزة أو عن جرائم حرب ترتكبها إسرائيل.
مواقف المجتمع اليهودي
الأزمة والخوف والحاجة للانتقام تُرجمت في مواقف المجتمع الإسرائيلي وفقاً لاستطلاعات الرأي العام التي نُشرت أخيراً في عدد من مراكز الأبحاث في إسرائيل. جميعها يوضح انزياح المجتمع نحو تبني مواقف كانت محسوبة على اليمين في المجتمع الإسرائيلي. على الرغم من أن سياسات اليمين ومواقفه هي التي أدت إلى الإخفاق الكبير، للمفارقة.
من بين تلك الاستطلاعات كان استطلاع المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، الذي يتابع منذ عقدين مواقف المجتمع الإسرائيلي تجاه مواضيع أساسية تتعلق بطابع دولة إسرائيل وهويتها، وقضية السلام والمساواة. ونشر المعهد، الأسبوع الماضي، استطلاع رأي عام تناول مواقف المجتمع بعد عملية "طوفان الأقصى" والإخفاق الكبير يوم السابع من أكتوبر، فحص فيه مواقف المجتمع تجاه مستقبل النظام الديمقراطي، الشعور بالأمان، الموقف من حكومة بنيامين نتنياهو ومن رئيسها، التصور للعلاقات اليهودية العربية مستقبلاً.
في جانب مستقبل الديمقراطية في إسرائيل، تحديداً سؤال "ما هو شعورك تجاه وضع النظام الديمقراطي في إسرائيل في المستقبل المنظور؟"، أجاب قرابة 43 في المائة من المشاركين اليهود بأنهم "متفائلون"، مقابل 47.5 في المائة متشائمين حيال مستقبل النظام الديمقراطي في إسرائيل في المدى المنظور. أما حول سؤال "ما هو شعورك تجاه وضع إسرائيل الأمني في المستقبل المنظور؟"، قال 45.8 في المائة من المشاركين اليهود إنهم متفائلون (37.6 في المائة متفائلون و8.2 في المائة متفائلون جداً). بينما قال 48.3 في المائة إنهم متشائمون حيال مستقبل وضع إسرائيل الأمني في المدى المنظور (14.6 في المائة متشائمون و33.7 في المائة متشائمون جداً).
كما فحص الاستطلاع آراء المشاركين بشأن "العلاقات بين مواطني إسرائيل اليهود ومواطني إسرائيل العرب، اليوم". وقال 11 في المائة من المشاركين اليهود في الاستطلاع إنها جيدة، بواقع 0.3 في المائة "جيدة جداً" و10.7 في المائة "جيدة"، بينما اعتبر 32.4 في المائة من المشاركين اليهود أنها سيئة، بواقع 20.3 في المائة "سيئة" و12.1 في المائة "سيئة جداً".
أظهر استطلاع أن 90 في المائة من اليهود يتوقعون، باحتمال عالٍ، أن تندلع في المدى القريب أعمال عنف ومواجهات بين اليهود والعرب على غرار أحداث "هبة الكرامة"
استطلاع آخر لـ"مركز أكورد" لعلم النفس الاجتماعي في الجامعة العبرية في القدس، فحص مستقبل العلاقات اليهودية العربية إثر الحرب على غزة. وجاء فيه أن 90 في المائة من المستطلعين اليهود يتوقعون، باحتمال عالٍ، أن تندلع في المدى القريب أعمال عنف ومواجهات بين اليهود والعرب على غرار أحداث "هبة الكرامة" عام 2021. بينما توقع ذلك 70 في المائة من المستطلعين العرب. مما يوضح زيادة التوتر بين المجتمعين اليهودي والعربي، على الرغم من الهدوء الحالي وامتناع المجتمع العربي عن القيام بأي تحدٍّ لقرار منع التظاهر والوقفات الاحتجاجية، وموجة الترهيب والإخراس التي تنفذها المؤسسة الأمنية الإسرائيلية منذ اليوم الأول للحرب.
تشير نتائج استطلاع "مركز أكورد" أيضاً إلى أن مستوى دعم المجتمع اليهودي لاستعمال العنف تجاه المجتمع العربي في الداخل ارتفع جداً بعد الحرب، بينما تراجع ذلك لدى المجتمع العربي. كما ارتفع دعم المجتمع اليهودي لاستعمال خطاب عنيف تجاه المجتمع العربي في شبكات التواصل الاجتماعي، بينما حصل في هذا الجانب أيضاً تراجع لدى المجتمع العربي.
واستنتج "مركز أكورد" أن أحداث السابع من أكتوبر ستكون عاملاً مركزياً في بلورة وتحديد العلاقات بين المجتمعين اليهودي والعربي في السنوات المقبلة، وأن هناك دعماً وقبولاً وتفهماً لدى المجتمع اليهودي لاستعمال العنف تجاه المجتمع العربي.
أما بالنسبة لمواقف المجتمع اليهودي تجاه الحرب على غزة وأدوات العقاب التي يستعملها الجيش الإسرائيلي تجاه سكان غزة، فنرى أن هناك دعماً كبيراً لأدوات العقاب الجماعي لسكان غزة، حتى لو كانت مخالفة للقانون الدولي. فقد أوضحت نتائج استطلاع أجراه معهد "الحرية والمسؤولية" في جامعة "رايخمان" في هرتسليا، أن غالبية اليهود في إسرائيل، تؤيد تنفيذ إجراءات عقابية ضد غزة.
فعلى سبيل المثال، على مقياس "الشرعية" الذي يتراوح من 1 إلى 7، أجاب اليهود المستطلعة آراؤهم، بأن منع إدخال الغذاء إلى غزة أمر مشروع عند مستوى 5.7 وفق ما يرونه، وكانت النسبة مماثلة أيضاً بالنسبة لمنع إدخال الأدوية إلى غزة. وفي ما يتعلّق بقطع الكهرباء والوقود عن غزة، فقد أيَّد المستطلعون اليهود ذلك عند مستوى 6.3، فيما ارتفع التأييد إلى 6.6 في حالة قصف الأحياء السكنية التي يزعم الجيش الإسرائيلي أن "حماس" وُجِدت فيها، وبلغت مستوى 6 في حالة قصف المستشفيات التي يوجد فيها مقاتلون.
أوضح استطلاع استعداد الجمهور الإسرائيلي لقبول ضرر كبير بقيم الديمقراطية، من خلال إقرار أنظمة الطوارئ خلال فترة الحرب
وأوضح الاستطلاع استعداد الجمهور الإسرائيلي لقبول ضرر كبير بقيم الديمقراطية، من خلال إقرار أنظمة الطوارئ خلال فترة الحرب. كما كشف الاستطلاع عن تأييد واسع لتقييد حرية التعبير والتي يتأثر بها المواطنون العرب بشكل أكبر، إذ أجاب 69 في المائة من المشاركين بأنهم يؤيدون إلى حد كبير حظر التظاهرات التي "تتعاطف مع سكان غزة".
مواقف المجتمع الإسرائيلي توضح أنه مستعد لإلغاء الأدوات الديمقراطية مقابل نجاح المجهود الحربي، وأنه يسعى إلى الانتقام من كل من هو فلسطيني بعد أحداث السابع من أكتوبر، حتى لو كان ذلك مخالفاً للقانون الدولي، وحتى لو أن المواطنين العرب في إسرائيل هم المستهدفون. هذه المواقف شبيهة بمواقف القيادات السياسية كافة، حتى تلك التي لم تكن محسوبة على اليمين في إسرائيل، وعلى النخب الأكاديمية والثقافية المحسوبة على "اليسار الصهيوني". ذلك يشي بأن إسرائيل في صدد تحوّل كبير في المواقف والقيم السياسية وفي المشهد السياسي الداخلي، سيكون له أثر بالغ على قضية الاحتلال، وعلى علاقات اليهود والعرب في الداخل، بل وعلى علاقات إسرائيل بمحيطها العربي.