الأزمات الأمنية وحالات الحرب تؤدي عادة إلى إعادة ترتيب المنظومة السياسية والحزبية في إسرائيل. حرب عام 1967 ونتائجها كانت بداية ظهور أحزاب اليمين المتطرف في إسرائيل، وتعزيز خطاب التيار الصهيوني الديني، وزيادة قوته وحضوره السياسي والاجتماعي. حرب العام 1973 كانت بداية نهاية حزب العمل في انتخابات عام 1977، وبداية تغيير المنظومة الحزبية في إسرائيل. كذلك لعبت الانتفاضتان الأولى والثانية أدواراً مهمة في التغيرات الحزبية والسياسية، وفي التغيرات في المواقف السياسية لدى المجتمع الإسرائيلي.
الحرب على غزة... نقطة تحوّل سياسية
من المتوقع، وفقاً لكافة التقديرات، أن تشكّل الحرب الحالية على غزة نقطة تحوّل جدية في المنظومة السياسية والحزبية في إسرائيل، والدفع نحو تغيير في المواقف والقناعات السياسية لدى المجتمع الإسرائيلي. ويمكن القول إنها ستكون دافعاً لإعادة ترتيب المشهد الحزبي والسياسي عامة في إسرائيل، لأسباب عديدة. أبرز هذه الأسباب أن هذه الحرب لا تشبه سابقاتها في إسرائيل في الجانب العسكري والأمني، وتعكس إخفاقاً أمنياً كبيراً لكافة الأجهزة الأمنية وللحكومة. كما أن الخسائر البشرية لغاية الآن كبيرة جداً، خصوصاً الخسائر المدنية في الجبهة الداخلية، والخسائر المالية والمادية. هذه الحرب فتتت العقيدة العسكرية الإسرائيلية وضربت الاستراتيجية الأمنية والسياسية المعمول بها تجاه غزة والضفة الغربية منذ عقدين، في الصميم.
هذه الحرب لا تشبه سابقاتها في إسرائيل، وتعكس إخفاقاً أمنياً كبيراً لكافة الأجهزة الأمنية وللحكومة
وجاءت هذه الحرب، الوجودية وفق التعابير الإسرائيلية، لتوضح أنه مهما تجاهلت إسرائيل الحقوق الطبيعية للشعب الفلسطيني وتنكّرت لحقه في تقرير المصير، ومنعت إقامة الدولة الفلسطينية، فهي لا يمكن أن تلغي هذا الحق ولا أن تمنع الشعب الفلسطيني من النضال من أجل ذلك، مهما استعملت من أدوات إدارة الصراع أو تقليصه. بذلك ستعود القضية الفلسطينية لتكون محوراً أساسياً في المشهد السياسي الإسرائيلي بعد تجاهلها بشكل شبه تام في العقدين الأخيرين.
كما جاءت هذه الحرب بعد قرابة عام من التصدع والاحتجاجات الداخلية في المجتمع الإسرائيلي حول الخطة الحكومية لتقييد القضاء، وتآكل معادلة "الديمقراطية اليهودية" من منظار التيارات الصهيونية العلمانية الليبرالية، ومحاولة إضعاف السلطة القضائية، التي أوضحت عمق وحقيقة التصدعات السياسية والاجتماعية داخل المجتمع الإسرائيلي. فقد أعادت إلى الواجهة التصدع بين التيارات العلمانية والدينية، والتصدع بين اليهود من أصول غربية واليهود من أصول شرقية، والتصدعات الطبقية. جميعها اجتمعت في الخطة الحكومية لتقييد القضاء، ظاهرياً، كونها عكست صراعاً حقيقياً على طبيعة النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي في المجتمع الإسرائيلي.
كل هذا يعني أن هناك حاجة ضرورية، من منظار إسرائيلي، إلى طرح مشاريع سياسية تتلاءم مع إعادة التقييم للحالة الاستراتيجية العسكرية وكيفية التعامل مع القضية الفلسطينية، من جهة، والتعامل مع إسقاطات الخطة الحكومية لتقييد القضاء والتصدعات العميقة داخل المجتمع الإسرائيلي، من جهة أخرى. كما لا يمكن تجاهل الحاجة إلى التعامل مع الأزمة الاقتصادية التي ستحل على إسرائيل بعد انتهاء الحرب. هذه العوامل معاً عرفت التصدعات السياسية في إسرائيل في العقود الأخيرة.
بداية نهاية هيمنة حزب الليكود وقيادة نتنياهو
منذ العام 2009 بات حزب الليكود بقيادة بنيامين نتنياهو ومعسكر الليكود معسكراً مهيمناً في المنظومة السياسية في إسرائيل، بعد عقود تقاسم فيها حزب العمل وحزب الليكود السيطرة على المنظومة الحزبية في إسرائيل. بهذا المعنى لم تكن هناك أي إمكانية لتشكيل حكومة في إسرائيل لا تكون برئاسة "الليكود" ونتنياهو، الا لفترة قصيرة جداً بين عامي 2021 و2022.
وعكس ذلك هيمنة قيم ومواقف اليمين الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية في المجتمع الإسرائيلي. بل تحوّلت هذه القيم والمواقف إلى السقف الأدنى لأي طرح سياسي، وبذلك مهّدت لسيطرة اليمين المتطرف على المشهد السياسي والحزبي في إسرائيل، وغابت بشكل شبه نهائي طروحات اليسار الصهيوني التقليدي وتلاشت الأحزاب التي مثّلته، مثل حزب العمل وحزب ميرتس. ونمت بدل ذلك أحزاب وسط يمين لا تختلف كثيراً في مشاريعها وطروحاتها السياسية كثيراً عن طرح حزب الليكود التقليدي، لكنها عارضت نتنياهو شخصياً ورفضت الانضمام إلى تحالف بقيادته، مثل حزب "يوجد مستقبل" بقيادة يئير لبيد، وحزب "المعسكر الوطني" بقيادة بيني غانتس، الذي انضم أخيراً لحكومة الحرب بقيادة نتنياهو.
الإخفاق في حرب غزة وإطالتها والخسائر البشرية والمادية سيكون لها تأثير بالغ على مكانة "الليكود" ونتنياهو بشكل مباشر
الإخفاق الكبير والحرب الحالية على غزة، والتوقعات بإطالة الحرب وتزايد الخسائر البشرية والمادية، ناهيك عن الخسائر في المدى المتوسط والبعيد، منها احتمال تراجع مكانة إسرائيل دولياً وربما تعزيز حملات المقاطعة الاقتصادية والأكاديمية وغيرها، سيكون لها جميعاً تأثير بالغ على مكانة حزب الليكود ونتنياهو بشكل مباشر وفوري.
نتنياهو متهم منذ اللحظة الأولى بالمسؤولية عن الإخفاق الكبير وتبعاته، وأنه أهمل تحذيرات المؤسسة العسكرية وركز فقط على خطة تقييد القضاء وعمل لإنقاذ نفسه من المحاكم الجنائية، وفتت المجتمع الإسرائيلي وأضعف القدرات الأمنية والعسكرية. وهناك شبه إجماع لدى المحللين السياسيين والقيادات السياسية بأن نهاية حياة نتنياهو السياسية ستكون مباشرة مع انتهاء الحرب. بل هناك من يطالب بأن يكون ذلك بشكل فوري بواسطة حجب الثقة الشخصية عن نتنياهو وتشكيل حكومة جديدة، ولو كان ذلك أثناء الحرب وبشكل استثنائي لا سابق له في تاريخ إسرائيل.
نهاية حياة نتنياهو السياسية تعني نهاية سيطرة "الليكود" على السلطة التشريعية والتنفيذية. لكنها تعني أيضاً ضرراً بالغاً لأحزاب اليمين المتطرف الشريكة في الحكومة الحالية، المتهمة إلى جانب نتنياهو بمساهمتها في الإخفاق العسكري الكبير، وبعدم قدرتها على إدارة الجوانب المدنية والاقتصادية للحرب، وبأنها مستعدة لإحراق المنطقة في سبيل تحقيق رغباتها السياسية. بهذا المعنى فإن الحرب على غزة ستؤدي إلى تراجع مكانة وقوة أحزاب اليمين واليمن المتطرف الشريكة في التحالف الحكومي القائم.
إعادة ترتيب المشهد الحزبي
نهاية نتنياهو السياسية ستفتح باب المنافسة لقيادة معسكر اليمين، وربما توفر فرصة لعودة شخصيات يمينية هجرت حزب الليكود بسبب وجود نتنياهو، أو بناء تحالفات جديدة بين أحزاب اليمين، أو إقامة أحزاب يمينية جديدة، وإلى عودة شخصيات سياسية يمينية اعتزلت السياسية ولو بشكل مؤقت، إلى الواجهة، مثل رئيس الحكومة السابق نفتالي بينت. كما ستؤدي إلى تعزيز مكانة حزب "المعسكر العمومي" برئاسة غانتس، وبدرجة أقل حزب "يوجد مستقبل" برئاسة لبيد.
نهاية نتنياهو السياسية ستفتح باب المنافسة لقيادة معسكر اليمين، وربما توفر فرصة لعودة شخصيات يمينية هجرت حزب الليكود
تراجع مكانة "الليكود" بشكل خاص وأحزاب اليمين المتطرف عامة، لن يؤدي إلى نشوء أحزاب يسار صهيوني جديدة أو تعزيز طرح المشاريع اليسارية، بل قد يؤدي على الرغم مما حصل وفشل حكومة اليمين الكاملة، إلى توسع انتشار قيم اليمين في المجتمع الإسرائيلي.
الإخفاق الكبير والحرب على غزة سيؤديان كما أدت إخفاقات أو نجاحات عسكرية سابقة، إلى إعادة ترتيب المشهد السياسي والمنظومة الحزبية في إسرائيل. وعلى الرغم من مسؤولية حكومة اليمين عن الإخفاق الكبير والحرب، ونتائجها، ستؤدي إلى تعزيز قيم ومواقف اليمين في المجتمع الإسرائيلي، وإلى بروز أحزاب جديدة تحمل مشاريع اليمين التقليدي، وإلى انزياح أحزاب وسط اليمين، والمجتمع الإسرائيلي عامة، إلى قيم ومواقف اليمين التقليدي.