منذ أشهر والتركيز على إيران في واشنطن، يقتصر على التنديد بمشاركتها في تسليح موسكو بالمسيّرات في حربها على أوكرانيا، وفضحه، فيما دخل في الآونة الأخيرة على الخط الموضوع النووي من جديد، من خلال الهمس حول مقاربات وطروحات بديلة للاتفاق النووي الموقّع عام 2015.
وتكشف التوجه الأميركي الجديد بزيارة منسق الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في البيت الأبيض بريت ماكغورك إلى سلطنة عمان، في مارس/ آذار الماضي، "للتحاور غير المباشر" مع طهران بشأن الصيغة البديلة التي يبدو أنّ إيران كانت قد أرسلت من جانبها إشارات إيجابية بشأنها.
قبل حوالي أسبوعين بدا أنّ الحوار تحوّل إلى لقاء مباشر جرى بين المبعوث الأميركي الخاص بشأن إيران روبرت مالي والسفير الإيراني لدى الأمم المتحدة، سعيد إيرواني. تسريب خبر هذا التحوّل في سياسة الإدارة (ربما تعمّده مالي لجسّ النبض) أثار أسئلة تعاملت معها الإدارة بالنفي رغم توالي التقارير والمعلومات حول عدة لقاءات جرت في نيويورك لا لقاء واحد فقط بين المسؤولين الأميركي والإيراني.
مع ذلك أصرّ الناطق باسم الخارجية الأميركية ماثيو ميلر، في إحاطته الصحافية، أمس الأربعاء، على وصف هذه المعلومات بأنها "مزيّفة"، علماً بأنّ تسريبات صدرت عن الخارجية (إلى صحيفة "فاينانشال تايمز" البريطانية مثلاً) تؤكد خبر اللقاء الذي دار حول عدة صيغ بديلة لاتفاق 2015، تتراوح بين العمل للتوصل إلى تسوية "مؤقتة" أو إلى تفاهم بشقين من "تجميد" البرنامج النووي مقابل "فك التجميد" عن أصول وعقوبات إيرانية.
لكن الإدارة الأميركية تنفي المؤكد. فهي تقرّ بالحوار بصورة ملتبسة عندما تقول إنّ لديها "القدرة لإبلاغ رسائلنا إلى طهران"، من دون الدخول في التفاصيل، كما تقول الخارجية. هذه الرسائل والمواقف كان يجري تبليغها لإيران عن طريق الأوروبيين في جولات مفاوضات فيينا لأنّ طهران كانت ترفض التفاوض وجهاً لوجه مع واشنطن آنذاك.
تراجع إيران عن رفضها هذا لا بدّ وأن يكون قد جرى مقابل تنازلٍ ما قدّمته الإدارة. الاعتقاد أنه كان قبولها بالتفاوض حول بديل عن اتفاق 2015، والواقع أنّ إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، كانت جاهزة لتحوّل من هذا النوع. وكانت قد أعطت إشارات في هذا الاتجاه.
فقبل عدة أشهر اعترف بايدن، في ردّه على سؤال خلال زيارة كان يقوم بها إلى ولاية كاليفورنيا، بأنّ هذا الاتفاق "مات". سارع البيت الأبيض إلى استدراك الأمر بتصويره أنه كان زلة لسان، لكنه في الحقيقة كان تعبيراً عن واقع الحال وعن قناعة الإدارة واستطراداً عن نيتها في الاستدارة نحو البحث عن صيغة أخرى.
دينامو هذا التوجه كان روبرت مالي. ويمكن القول من دون مجازفة إنّ مستشار الرئيس للأمن القومي جيك سوليفان كان من المؤيدين. نقطة الانطلاق في التحوّل أنّ بايدن التزم علناً مراراً وتكراراً بعدم السماح لإيران بامتلاك السلاح النووي في أي حال من الأحوال، منذراً بأنّ كل أوراقه على الطاولة لترجمة التزامه؛ ضمناً الورقة العسكرية من جملتها.
هذا على مستوى التحذير. لكن على مستوى الواقع كان بايدن قد تعهّد من خلال خروجه من أفغانستان، بإقفال باب الحروب الأميركية في الشرق الأوسط. إيران التي تعرف ذلك، اغتنمت الفرصة بعد انسحاب الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، من الاتفاق عام 2018، لرفع درجة تخصيب اليورانيوم وتكديس كمياته، بحيث صارت على "عتبة" السلاح النووي وفق تقديرات خبراء غربيين.
تطور عزز وضعها التفاوضي وحقق ما أرادته "على الأرجح وهو أنها أصبحت في وضع نووي افتراضي يمكنها من ترجمته سياسياً بفرض قبوله على العالم وبالتالي أخذه بالحسبان وبما يخفف الضغوط على نظام طهران" وفق قراءة الخبيرين إريك بروور وهنري روم في مجلة "فورين أفيرز".
في ضوء هذا الواقع بدا أنّ الإدارة اتجهت نحو البحث عن ترتيب يضبط النووي عن هذه الحدود، على أساس أنّ الخيار العسكري مستبعد عملياً رغم التلويح المستمر به، لا سيما وأنّ إيران، بحسب التقديرات، تكتفي بالبقاء عند هذه "العتبة" من دون تجاوزها. وهو تصور تفرضه الواقعية من منظار الإدارة المنخرطة بالتفاوض حول الصيغة البديلة، لكن مشكلة بايدن بيع هذا التوجه جاء في عام انتخابي لكونغرس كان في غالبيته غير مرتاح لاتفاق 2015 فكيف لتسوية مؤقتة؟
مراهنة الإدارة تبقى على أنّ مثل هذا البديل المحتمل يمكن أن تسمح الظروف بتطويره، خاصة إذا ما تفاقمت مصاعب ومتاعب النظام الإيراني السياسية والاقتصادية والاجتماعية الداخلية. هذا إذا بلغت المفاوضات الجارية خواتيمها المنشودة.