مرّت منطقة الحولة في الريف الشمالي لمحافظة حمص، وسط سورية، على مدار عشرات الأعوام، بتجاذبات وصراعات مع نظام حافظ الأسد، الذي عمل طيلة سنوات حكمه على تفكيك المنطقة وإقصائها عن الحضور والمشهد السياسي السوري، ليستكمل نجله بشار الأسد المسار نفسه، ويضرب المنطقة بالحديد والنار.
وبعد أكثر من ثماني سنوات على مجزرة الحولة، التي ارتكبتها مليشيات موالية للنظام في 25 مايو/ أيار عام 2012، تعيش المنطقة اليوم حالة هدوء وسلم، لكنه سلمٌ يوصف بالمزيف، ويُستبعد أن يكون دائماً، خصوصاً أنه فُرض بالإكراه على الأهالي، مع غياب أي محاسبة لمرتكبي المجزرة التي راح ضحيتها 108 أشخاص تمّ توثيقهم، مع بقاء مفقودين لم يُعرف مصيرهم حتى اليوم. كما أن النظام عمل على خلق حساسية طائفية بين الأهالي، لفرض انقسام بينهم وتعزيز قبضته.
انتهج النظام السوري خطة مدروسة لتقسيم المنطقة والتحكم في نسيجها
وخضعت الحولة لسيطرة النظام بشكل كامل، عقب عمليات التهجير التي تمّت برعاية روسية في مايو/ أيار 2018، وأفضت إلى نقل المعارضين وذويهم والرافضين للبقاء تحت حكم النظام إلى شمالي البلاد. وجاء ذلك بعدما طُرحت عام 2014 مبادرة للسلم الأهلي في المنطقة، لكنها أُجهضت من قبل النظام وأطراف مقربة منه، كون المبادرة كانت ستنهي سياسة الجوع أو الركوع التي اتخذها النظام كورقة ضغط في المنطقة. فهذا النوع من المبادرات من شأنه فتح الطرق بين المنطقة والقرى المحيطة بها، وإخراج أهلها من تحت وطأة الحصار.
واليوم، وبعد نحو عامين من التهجير، عادت الحياة في الحولة إلى مسارها المرسوم من قبل النظام، مع إقصاء الكفاءات العلمية وغيرها، وعودة القبضة الأمنية لتحكم من جديد فيها. وقبل التهجير، قُدّر عدد سكان المنطقة بنحو 60 ألفاً، فيما عدد السكان قبل الثورة قُدّر بنحو 120 ألف نسمة في المنطقة التي تضم مدن تلدو وكفرلاها وتلذهب، وقرى الطيبة والسمعليل وطلف وبرج قاعي وعقرب.
تحولات سياسية
قبل وصول نظام الأسد إلى الحكم، عرفت المنطقة تحولات سياسية لتنعم بالديمقراطية والتعددية، لتعود الأمور وتنقلب الأحوال ويتغير المشهد، كما قال ابن المنطقة الباحث السياسي محمد المصطفى لـ"العربي الجديد"، مقدماً سرداً تاريخياً عن المشهد السياسي الذي مرّت به الحولة. وشرح المصطفى أنه "قبل وصول حزب البعث الاشتراكي إلى السلطة في سورية، كان هناك نشاط سياسي ملحوظ في المنطقة، وظهرت ثلاثة تيارات سياسية: الأول التيار الإسلامي، الذي ارتبط فكرياً بحركة الإخوان المسلمين، والثاني التيار القومي، وهذا التيار كان منقسماً لقسمين، هما الناصري نسبة لجمال عبد الناصر، والبعثي، أما التيار الثالث فهو الأممي، وهو التيار الأقل حضوراً، ويمثل التيار اليساري أو الشيوعي، إن صح التعبير".
ولفت المصطفى إلى أن "التضييق بدأ مع وصول حافظ الأسد إلى السلطة رئيساً في العام 1971، وخصوصاً بعد تعديل الدستور، والاعتراضات من التيار الإسلامي على الدستور الذي وضعه الأسد مع وصوله للسلطة. وبات الأمر واضحاً بعد دستور 1973، ورفض التيار الإسلامي له، خصوصاً أن من بين الرافضين حينها محمد علي مشعل، ممثل التيار الإسلامي في المنطقة، وعضو مجلس النواب السوري، وتم اعتقاله بين العامين 1973 و1975، وكانت الاعتقالات في تلك الفترة تنفذ بهدف التضييق على التيار الإسلامي". وأردف المصطفى أن "الأمر الثاني، كان يتعلق بفئة المدرسين، وتمّ نقلهم من وزارة التعليم لوزارات خدمية أخرى، بحيث لا يكون لهم تأثير على الطلاب أو محيطهم بشكل مباشر. وبما يتعلق بالتيار الإسلامي، كان هناك نوع آخر من التضييق، كالمنع من الخطابة ومنع النشاطات الاجتماعية، والتهديد بالطرد من الوظائف، ما اضطر الكثيرين منهم لمغادرة البلاد حينها".
وبخصوص إنهاء التيار الناصري في المنطقة، أشار الباحث السياسي إلى أن هذا التيار كان له حضور أقوى في المؤسسة العسكرية، وبالتالي كان التسريح والإبعاد منها هو الإجراء الأشد الذي يتخذ بحقهم، أما التيار الناصري المدني، فتم استيعابه وترويضه بشكل أو بآخر، ضمن الجبهة الوطنية التقدمية، وبالتالي فقد فاعليته، وأصبح تابعاً بشكل أو بآخر لحزب البعث. أما التيار اليساري أو الشيوعي، فكان ممثلوه عبارة عن مجموعة أفراد، ليس لديهم حاضنة قوية للعديد من الأسباب، منها العامل الديني، ولم يكن لدى السلطة حينها مشكلة في حضورهم، لسهولة السيطرة عليهم وضبطهم والحد من فاعليتهم، بحسب المصطفى.
وانتهج النظام السوري خطة مدروسة لتقسيم المنطقة والتحكم في نسيجها، وفق المصطفى، فالتقسيم العائلي أو الطبقي، هي لعبة ينتهجها النظام، وهو دائماً ما يعمد للتفريق، وتمزيق المجتمع، وإنشاء الصراعات البينية. وشرح المصطفى أن المنطقة ليست معقدة طبقياً، وتعتبر مكونة من طبقتين ظاهرتين، فقيرة ومتوسطة، وليس فيها طبقة غنية واسعة الحضور، فاستخدم فيها الصراع الطبقي العلمي، إذ حارب النظام الطبقة المتعلمة في المراكز الحكومية المهمة والمؤسسات، وعيّن أفراداً لا يتمتعون بالكفاءة، مكتفياً بولائهم له، ومقصياً طبقة المتعلمين والأكاديميين عن الوظائف والمسؤوليات العامة.
ولم يلجأ النظام لتطبيق النموذج الذي اتبع في مدينة حماة لإخماد الثورة ضده في المنطقة. وقال الباحث السياسي في هذا الصدد، إن "النظام لم يعمم تجربة حماة على أي منطقة، فهي كانت استثناء وليست قاعدة، وكان يعلم أن الإمكانيات أو الموازين العسكرية لصالحه، وتحديداً أن الحولة لم تتجه للتسليح في المراحل الأولى للثورة، بل كانت تقتصر على الاحتجاجات والتظاهرات والإضرابات، أما التسلح أو الدفاع المسلح، فكان هدفه دفاعياً بالدرجة الأولى، وليس إسقاط النظام، خصوصا بعد مجزرة الحولة الشهيرة التي وقعت في 25 مايو 2012، والدفاع كان رداً على أن أي تقدّم للنظام في المنطقة كان يعني مجازر أكبر، وبالتالي لم يكن هدف السلاح إسقاط النظام عسكرياً".
ورأى المصطفى أنه "مما لا شك فيه أن الحراك السلمي والتظاهرات في المنطقة، كان لها تأثير واضح على قرار النظام باستخدام العنف، وهو في الأساس لا يستطيع مواجهة هذا النوع من التظاهرات إلا بالعنف، وهذه طبيعته". ولفت إلى أن "القوة المفرطة من النظام في المنطقة جاءت أيضاً لأسباب متعددة، ولا شك أن التظاهرات، ووجود شريحة كبيرة من أهالي المنطقة رافضة للنظام، كانت سبباً في العنف المفرط، إضافة لموقع الحولة".
وعن عودة الهدوء والسلم الأهلي إلى الحولة، بيّن المصطفى أن الأمر ليس مقترناً بالمنطقة، إنما بالمشهد السوري بشكل عام وبالمنطقة، وهو سلم بالإكراه وليس سلماً اجتماعياً حقيقياً، لعدم وجود مساءلة وعدالة حقيقية، فهذا السلم مزيف ومؤقت ولن يكون دائماً. لكنه لفت إلى أن "الحساسية الطائفية في المنطقة صُنعت من قبل النظام، وبزواله ستزول آثار هذه الحساسية مباشرة، فهو الوحيد المستفيد منها، ويتغذى عليها".
عزل جغرافي وفرز طائفي
ويسير النظام في خطة عزل جغرافي وفرز طائفي للمنطقة، وفق الناشط المدني من المنطقة أسامة عبد الهادي، الذي أوضح أن "النظام عزل المنطقة جغرافياً، فالطرقات في حمص تحتاج لموافقات أمنية بالدرجة الأولى، والبلديات هي التي تعد المخطط وترفعه للدراسة الأمنية، وهذه السياسة مخطط قديم انتهجه النظام حتى في محاصرة الأحياء في مدينة حمص والتقسيم لكانتونات طائفية، وعمل على تغذية النعرات الطائفية منذ وصوله للسلطة". ومن الدلائل على العزل الجغرافي التي أوردها عبد الهادي، طريق حمص - مصياف، إذ كان من المخطط أن يمر غربي منطقة الحولة، لكن الدراسة كانت تُرفض دائماً، فيما شرقي الحولة كانت كلفة الطريق فيها مرتفعة جداً، لذلك كان مشروع الطريق يجمد دائماً. وتابع عبد الهادي أن "الإقصاء كان عبر الموقع الجغرافي، فالحولة منطقة سنّية تحيط بها أكثر من 30 قرية سكانها من الطائفة العلوية، والطرق المؤدية للحولة تمر بهذه القرى حصراً، وهذا ما استغله النظام لعزل المنطقة".
يقف النظام وراء الشحن الطائفي في الحولة وتغذية الخوف المبني على أساسه
ولفت الناشط المدني إلى نقطة مهمة في الأحداث التي مرّت بها الحولة، حصلت قبل التهجير، فكان هناك تواصل بين وجهاء من الطائفة العلوية والقرى المحيطة في المنطقة، مع فعاليات فيها، وكانوا يطلبون من الأهالي البقاء في الحولة، خوفاً من لجوء النظام لإدخال المليشيات الإيرانية إليها، وأن بقاء السُكّان هو الحل الأفضل. وأضاف أن هذه الفئة كانت تدرك تماماً أن النظام هو الذي وقف وراء الشحن الطائفي وغذّى الخوف المبني على أساسه، عن طريق مليشياته، لا سيما التي ارتكبت مجزرة الحولة مستخدمة شعارات طائفية، وقبلها مجزرة الجمعة العظيمة أيضاً، وكلها ساهمت في تعزيز الفكرة أو النظرة الطائفية التي كانت غائبة عن المنطقة.
وفي ختام حديثه، شدد عبد الهادي على أنه "قبل هذا النظام، كان هناك تعايش بين مختلف طوائف المنطقة، من دون خلاف، والمثال المشهود والمعروف من سكانها هو مدرسة علي بن أبي طالب في مدينة تلدو، التي كان يرتادها الطلاب من كافة الطوائف، وكثيرون منهم وصلوا لمناصب مهمة في الحكومة، لكن النظام لدى وصوله عمل على تنمية وتعزيز الفكر الطائفي، كي يحكم السيطرة على المنطقة".